منوعات

تقرير مسرب…

عقد العزم على كتابة “تقرير خاص” و مفصل عن النشاط المتنامي لأبناء البلدة، وبعثه لرؤسائه بطلب منهم بعد المستجدات الأخيرة، وأعد العدة لذلك.
كانت عدته سيلا من الأخبار المتنوعة والشاملة والمفصلة تفصيلا محيرا.
ولج غرفته الخاصة، و أحكم إغلاق الباب، وشمر عن ساعديه، وفتح أزرار قميصه الأحمر، فأطلت شعيرات تخفي تحتها غابة من الشعر الكثيف.
جلس إلى مكتبه، فأوقد المصباح المكتبي، وعطل هاتفه النقال، ووضع بالقرب منه قارورة ماء معدني بارد، وفنجان قهوة سوداء لمساعدته على التركيز.
أحضر أوراقا بيضاء، وقلم حبر جاف.
كانت هذه عادته المرعية في مثل هذه الظروف الخاصة.
لم يكن يهو الكتابة على الحاسوب في البداية، بل يعمد إلى كتابة تقاريره الخاصة بخط اليد، و حالما تحظى بقبول رئيسه المباشر، يعمل على رقنها على حاسوبه الخاص ذي القن السري. فما يقوم به من عمل يدخل تحت مسمى الأعمال الخاصة بل والموغلة في السرية.
لم تكن الورقة العشرون راضية  عما خط على أخواتها اللائي ظل هذا “الكراظ” يصر في كل مرة على “اغتصاب” بياضهن الصافي، معبئا إياهن بكل ما توسوس له به نفسه الخبيثة الأمارة بالسوء.
انطلقت عملية التسويد، وراح يعبئ الأوراق تلو الأوراق، متتبعا كل التفاصيل التي ظل يجمعها (بتشديد الميم) يوميا أثناء جولاته بالشارع مرورا بالمحطة والسوق أول الصباح، وضحى بارتياد المقاهي.
فيخصص ما فضل من صباحه للجلوس بالمقاهي الشعبية التي يستهلك روادها “براريد” الشاي و”جيرات الزريكك”، ويمسي بمقاهي النخبة التي يحتسي زبناؤها أصناف البن والعصائر والمشروبات الغازية، وبذلك يجتمع لديه كما معتبرا من الأخبار.
و بين العشائين يقصد دكاكين التجار، التي تحفل مجالسها بأسرار الفسح والرحلات (بتسكين الحاء) الخاصة، ونقاشات السمر الليلي لبعض مجالسي النخب متنافسين عن حسن نية، في نقل ما يروج ويموج من أنباء بتلك المجالس الحميمة.
فضلا عما تجود به نقاشات الناس بالمآدب، التي يحرص “الكراظ” حرصا شديدا على حضورها مطرقا آذانه لكل خبر، مهما كان جليلا أو حقيرا.
وليلا، يؤم العالم الافتراضي للتلصص ومتابعة تدوينات وتغريدات وتحاليل أبناء الشعب، سواء كانت صادقة أو مجرد ترهات، بل أحيانا ما تكون أضغاث أحلام.
كانت الورقة البيضاء الأخيرة المتبقية فوق مكتبه تنتظر نصيبها من حبر قلمه الذي يحدث “صريرا”  في حق شيب البلدة وشبابها، كما هو الشأن بالنسبة لنسائها وأطفالها.
وبفعل حرارة الجو بالخارج، بدأ جبينه يتصبب عرقا بفعل مجهوده في الكتابة، وجف ريقه  من فرط قراءة ما كتب حتى الآن.
نهض من جلسته الآثمة تلك،  وقصد النافذة القريبة من مكتبه يبتغي فتحها، وعاد إلى كرسيه مستريحا باحتساء ما تبقى من قهوته، وتناول بعضا من ماء بارد ليعود لإتمام تقريره المفصل.
بعد لحظات، هبت نسائم ريح حارة مفاجئة، ثم ارتفع هبوبها شيئا فشيئا حتى صارت زوبعة رملية، وبدأت الأوراق تتطاير واحدة تلو الأخرى.
ارتبك “الكراظ” من هول الموقف، وقصد النافذة ليغلقها حاملا بيده الورقة الأخيرة، ثم فتح باب الغرفة فباب المنزل، وخرج مسرعا لتجميع الأوراق الهاربة فلم يدرك منها سوى ثلاث مرتبكات الترتيب، فيما أطلقت الأخريات سيقانهن للريح.

– بقلم  الدكتور بشري إكدر

اترك تعليقاً