منوعات

أسرار معلنة / بقلم : بشري إكدر

… تطايرت أوراق التقرير السري الذي بذل “الكراظ” قصارى جهده في كتابته، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بجعله تقريرا مقبولا، لدى من يهمهم الأمر من رؤسائه، من كثرة ما ضمنه من معطيات وتفاصيل عن حال بل وأحوال أهل البلدة، وبعدما فشل الكراظ -كما مر معنا (قصة تقرير مسرب)- في جمعها واسترجاعها أصبح في المدينة خائفا يترقب.

وعقد العزم على كتمان الأمر حتى عن نفسه التي بين جنبيه، وعاد في اليوم التالي إلى “حرفته” التي لا يتقن غيرها.

فبدأ يوم “عمل” جديد يسعى على رجلين، بين الشارع العام والسوق والمحطة والمقاهي بنوعيها، فلم يسمع شيئا عن تقريره الضائع، اللهم بعض القهقهات المسموعة في مقهى شعبي بجانب المحطة، تحلق حول إحدى طاولاته مجموعة من الأشخاص من أعمار مختلفة، وعندهم “جيرة لبن” غزاها الذباب، وهم “يخنقون” براد شاي بثمن بخس، يؤدي ثمنه أحدهم يوميا على سبيل التناوب، ولأن “مول الروح مرموح” كما هو معروف لدى أهل الصحراء، ظن صاحبنا بالجالسين بالمقهى الشعبي الظنون فانصرف غضبان أسفا.

      فيمم وجهه نحو مقهى يؤمه بعض المتنخبين (من التنخيب/النخبة) فإذا هم معرضون عنه، لاهين بلعبة طارئة يلعبها أربعة على أرضية ملعب صغير بشاشة هاتف نقال، فسلم عليهم ولم يردوا.  طفق مغادرا إلى بيته ونفسه حيرى مما يجري ويدور!!!

     وبدا شارد الذهن يسأل نفسه ويجيب، ما الذي يجري بالضبط، هل يكون التقرير “الهارب” وصل أحدهم؟

      أمضى يومه كئيبا بفعل ما ألم به. فمن جهة يستعجله رئيسه بضرورة تقديم التقرير بسرعة تلبية للتعليمات، ومن جهة ثانية ما يزال التقرير في عداد المفقودين، ومن جهة ثالثة فهو لا يجرؤ على البوح لأحد بما وقع. بقي في بيته حائرا طوال اليوم، ولما أدبر النهار وأقبل الليل، قصد الدكاكين التي يؤمها بين العشائين كما هو معتاد، فوجدها مغلقة (بتشديد اللام) الأبواب إلا واحدا ليس بين صاحبه والكراظ اتصال.

      خطرت برأسه فكرة ماكرة فتوجه إلى دكان لبيع الفواكه الجافة، فاقتنى لوزا وفستقا، وأنواعا أخر من مكسرات تركية مستوردة ذات ألوان مختلفة، كان ذلك بعيد حظر الأكياس البلاستيكية في الأسواق، فلف له الشيخ الهرم مشترياته بأوراق، وبينما كان عبد الجبار يلف الفواكه المختلفة في الورق، كان الكراظ يرقبها ممنيا النفس بأن تكون جزء من تقريره “الهارب. دفع ثمنها وفرائسه ترتعد خوفا من أن ينخدع.

     وصل بيته مسرعا في توقيت مبكر على غير العادة. تعجبت زوجه من مقتنياته، فأفرغ الورق مما احتوى بحذر حتى لا يمزقه، على أمل أن يجد ضالته. دلف إلى مكتبه باﻷوراق فإذا هي خالية مما تمنى، فلم تحو مضامينها غير بيانات وبعض منشورات الحملة الانتخابية الماضية.

     ازداد حنقه، وخرج يصرخ في وجه أهله. وليلا، امتطى أمواج “النت” يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج، من مواقع وشبكات وصفحات، في بحث بطعم التلصص عله يجد المفقود. وأخيرا وجدها، صفحة يتيمة من تقريره الضائع نشرها أحدهم باسم مستعار، على أشهر الصفحات المحلية وأكثرها متابعة وارتيادا.       جحظت عيناه لما رآها مصورة بطريقة باهتة “flow” عن قصد، حتى لا يتبين الناس مضمونها، ومن ثم يبقى المضمون حكرا على من وجدها، فهو أحق بها، وهو وحده القادر على تعميم مضمونها أو كتمانه، أو زيادته أو نقصه أو….. أو…… حسب ما تسول له نفسه. حاول جاهدا بتقنية “zoom” تقريب الوثيقة قصد طبعها واستخراجها فلم يفلح.

بقي حائرا مدة ساعتين، أو تزيد مفكرا في حيلة لحل معضلته. طبعا لم يكن يتصفح صفحات “الفيسبوك” باسمه الحقيقي، فأرسل للناشر طلب صداقة فلم يقبله. لحظات وتنزل صورة أخرى لصفحة ثانية مذيلة بتدوينة يتوعد فيها الناشر بفضح “الكراظ” في المدينة بل وفي العالم، فكل ما ينشر ها هنا يصبح مشاعا للمتصفحين بل وللناس كافة.

  فيكفي أن ينشر شيء مثير حتى تتناقله الألسن، فكيف بتقرير سري “فكل ممنوع مرغوب”.

هاتف رئيسه الذي ظل يطلبه وهو لا يجيب، وقد عقد العزم على البوح بما وقع، وأن يحكي له القصة كاملة.

طبعا كان رئيسه من مرتادي الشبكات فرأى ما رآه الكراظ فلم يجبه. كرر المحاولة مرارا دون رد. ارتفع منسوب التوتر لديه، بعدما احتسى قهوته الثالثة بدون سكر، وسكب قنينتا ماء معدني بارد في جوفه وما انطفأ اللهيب.

كانت إحدى الصفحات المنشورة بالتفصيل على صفحة “المدون المجهول” قد شاركها العديدون. وتحكي بالتفصيل الممل عن مخطط شريحة اجتماعية أعدت العدة للخروج في شكل احتجاجي خارج المدارالحضري للمدينة، بينما تحوي الأخرى تفاصيل سهرات ماجنة لبعضهم، كان قد استقى أخبارها مفصلة ذات ليلة من جلسة شاي أمام أحد الدكاكين، وقد كتبت أسماء المعنيين بها بحروف مقطعة، تلمح ولا تصرح، غير أن الأسماء كانت معروفة بفعل سهولة الحروف المستخدمة (…..). لم يستطع النوم من فرط السهر والتفكير دون جدوى. سرقته غفوة لساعة، فأفاق مذعورا، نتيجة ما رآه في منامه القصير من كوابيس.

وصباحا قصد الشارع في رحلة بحث جديدة، بعد ما كتب رسالة نصية قصيرة (سمس) لرئيسه يطلب لقاء عاجلا. ظلت رسالته بدون رد مدة يوم كامل.

ومساء جاءه الجواب طي رسالة خاصة على هاتفه. ثلاث كلمات خفيفة على اللسان، ثقيلة في “الميزان”. “لقد نفد اعتمادكم” وإذاك فهم “الكراظ” أنه قد تم الاستغناء عن خدماته.

اترك تعليقاً