الفكر الحر مقالات نقدية

الأديب المغربي بنسالم حِمِّيش: “هكذا أمسى أدونيس يا أسفاه”

بنسالم حميش 

الجمعة 13 يونيو 2014 – 21:15

كثيرون من جيلي كانوا معجبين أيما إعجاب بشعر أدونيس الذي اعتدنا على تسميته بالشاعر العربي الكبير. وقد ذهب بي الإعجاب إلى حفظ ما استطعت من قصائده عن ظهر قلب، استظهرت بعضها مرة في منزل الشاعر الصديق محمد بنيس بحضور شاعرنا بدايةَ التسعينات، ومرة بصحبته في مطعم يوناني بباريس، وأخرى في معهد سرفانتس بالرباط موفى السنة الماضية، إذ دعاني مديره صديقي ومترجمي فدريكو أربوس إلى إلقاء أبيات من شعر أدونيس بعد أن تحدث عن حياته وتجربته أمام جمهور من المغاربة والإسبان.

وقبل هذه المرة الأخيرة بأعوام، بدأت تساورني تساؤلات شكوكية حول غلبة الصور والمجازات السائبة المهلوسة (انظر أسفله) وأيضا في المرتكزات الفكرية (أو الإيديولوجية) في المتن الأدونيسي منذ أطروحته الثابت والمتحول، حيث برز تحيزه المطلق إلى الحداثة واللائكية ليس من باب البحث المعمق والتنظير الفلسفي، بل بفعل توجه دعوي قائم على أسلوب القرارات والمراسيم متوهما، خلافا لما يعلمنا إياه تاريخ الثورات والسياسات، أنه يكفي أن نقول للشيء كن فيكون.

والأدهى من هذا هو حملته العنيفة المكتوبة وفي يوتوب على العرب قاطبة كقوم لا إبداعية لهم، ولا دور في مجال المعرفة العلمية والاختراعات التقنولوجية، وهذا من دون أيّ اطلاع ولا تقصٍّ، وبالتالي فلا مردّ من أن يؤولوا إلى الانقراض والزوال. ولم تنج مداخلته في معهد سرفنتس من هذا الحيف المُشنع الذي أذهل حتى الحضور الأجنبي، كما مارسه بفرنسية لكناء ضعيفة في برنامج جان-بيير القباش “خزانة ميدسيس” (21 مارس 2014).

تساؤلاتي الشكوكية تنامت واحتدت بفعل ما علق بذاكرتي من شعر أدونيس (ظللت أردده أحيانا مع نفسي) وما دأبتُ عليه من قراءة لإصداراته. وهكذا تبدد إعجابي به، وصرت بإزائه يقظا وميالا إلى ممارسة الحق في نقده ومعارضته، عوض الركون إلى توقير إنتاجه -شعرا ومواقف- أو تقديسه. ومن هنا أتى هذا الحوار المتخيل بين صحافي وشاعر أتحمل فيه كامل مسؤوليتي.

سكت الرجل لحظات، تنفس واسعا كأنه يستعد لإلقاء كلامٍ ثقيل عليّ. قال بصوت متأرجح بين القوة والخفوت:

– هزُل الشعر وبار! صفحته عندي طويتها منذ زمان، ونفضت يديّ من عرض الشعر في سوق القحط والكساد… تجنّى عليه أرهاط كُثر ممن لا شغلَ لهم إلاّه… أُنظرْ عند كبيرهم أدونيس في خريف عمره إلى سيول هذياناته الجارفة ومواقفه الخرقاء في الفكر والسياسة، تختلط هاته بتلك، فيطلع علينا جاهرا بمثل ما ترسب في ذاكرتي: “سنقولُ البساطة: في الكونِ شيءٌ يسمّى الحضور وشيءٌ يسمّى الغيابَ نقول الحقيقةَ: نحنُ الغياب/ لم تلدنا سماءٌ لم يلدنا ترّابْ/ إنّنا زبدٌ يتبخّرُ من نهرِ الكلماتِ/ صدأٌ في السماءِ وأفلاكها صدأٌ في الحياةِ…”؛ والمستخلص من شعره ومواقفه أنه يستثني من ذلك طائفته العلوية، فعليّ (=ابن أبي طالب) عنده سيّدُ الأحزان والشهداء، وكيوسف الصديق “رموه في الجبِّ”؛ “وعليٌّ لهبٌ/ ساحرٌ مشتعلٌ في كلِّ ماءْ/ عاصفاً يجتاحُ- لم يترك تراباً أو كتاباً/ كنسَ التاريخَ غطّى بجناحيهِ النهار/ سرّهُ أنَّ النهارَ جُنَّ…” ثم “ورأيت اللهَ كالشحاذِ في أرضِ عليٍّ/ وأكلتُ الشمسَ في أرضِ عليٍّ وخبزت المئذنه…”؛ إلى أن يجهر: “سقطَ الخالقُ في تابوتهِ/ سقط المخلوقُ في تابوتهِ…” كيف لي ولغيري أن نقرأ مثل هذا الشعر المسعور وصوره المتخبطة في المس والرعونة: وخبزتُ المئذنة/ أعضاؤكِ نيلٌ يجري/ جبهة الحضارة قاعٌ طحلبيٌّ/ حواء حاملٌ في سراويلي/ هذي الجرّة المنكسرة أمة مهزومةٌ…بيت الداء ليس في فبركة مثل هذه الميتافورات السائبة التي أتى السرياليون والدادائيون بأجود منها وأبلغ، وإنما في تسخيرها لخدمة آرائه الثابتة العُصابية لاستخواء أمة العرب وتحقير ماضيها وحاضرها…

ظل الرجل يهمس بصورٍ ومجازات أخرى عفوَ التذكر، حتى إذا سكت مصوبا إليَّ نظره سألته متهيّبا:

– هل أنقل، أستاذي، أقوال الشاعر وأحكامك عليها؟

– كلامه منشور، وكلامي عليه افعل به ما تشاء، ولو أن وصوله إليه لن يتم، وإذا تمّ لن يفيد ما دام شعاره الطاغي: إذا استعصى عليك شعري فاكتفِ بتذوقه والتلذذ به، وإن عجزت فاتهم نفسك وازدريها!…

لدى الرجل يقين راسخ حتى النخاع بأنه الجوهر الفرد وربّ الخصب والإبداع، لا شريكَ له… نرجسيته لا مثيل لها: ضخمة، كثيفة، ضاجّة وصادمة! وهكذا تراه وتسمعه منفردا يخاطب الكون والخلق والأمم وعناصر الدنيا كلها، ويجول بأناه ويصول معلنا: “قادرٌ أن أغيِّرَ: لغمُ الحضارة – هذا هو اسمي”، فيشرّع بوثوقية قطعية مقررة أن لا منجاة ولا خلاص إلا بالتبني الحصري لنسقيْ اللائكية والحداثة اللي لا يعرف شيئا عن تاريخهما الفكري والواقعي؛ محوّلا كليهما إلى ديانة، وأيِّ ديانة!… ثم شاهده في يوتوب كيف يتعدى حدود النقد الموضوعي والمسؤول لعرب زماننا هذا (ومن قال يوما بعصمتهم أو كمالهم!)، فيبشر بانقراضهم هم وحضارتهم، مع أنه لا يربأ بنفسه عن تحصيل فلوسهم وجوائزهم.

ومثل هذا الهراء التحقيري السخيف لم يفه به حتى أشرس الأعداء وأخطرهم، من صهاينة وغلاة اليمين الفاشي، ويُستبعد أن يروق مؤسسة جائزة نوبل ذاتها اللي ما انفكَّ جاهدا لاهثا يتحبب إليها ويتزلف بشتى الرسائل والوسائل…

ثم انظره أيضا كيف يجهر بعزوفه عن قراءة الروائيين المحدثين جميعهم، ولا يعترف إلا بشاعرين أو ثلاثة هم على أي حال من درجة متواضعة بل أقل، وسوى ذلك من الترهات الهوجاء عنده كثيرة؛ هذا كلّه وذاك فيما زادُ الشيخ المعرفيّ بالغ الهشاشة، وتمكّنه النظري، دع عنك الفلسفي، موغل في الهزال والتدني. فلو أنه قرأ من أعمال الراحل إدوار سعيد ولو صفحات في الامبريالية والثقافة، أو سيرته الذاتية خارج الزمان، لتوافرت لديه كلّ الدواعي والأسباب لكي يخجل من نفسه ومن تحرشاته المستميتة بالعرب دون الغرب وإسرائيل، فيلتمس الصفح والمعذرة… وذلك العجز المضاعف البيِّن لا يثنيه عن التشدق بالشعارات الهجينة وجلد ذات أمة برمتها (كما جاراه فيه للأسف فؤاد نجم قبيل وفاته في كلام بديء قائلا “إلى الأمة العربية: بعد “الطز” لم يعد يليق بك التحية”)، فيقول صاحبنا عن الربيع العربي إنه “ثورة المساجد” ويذهب إلى تسفيه المقاومة السورية للنظام الأسدي… انظر في ديوانه “الكتاب”المكتظ بالصور والمجازات الطائشة المعربدة كيف يختزل تاريخَ هذه الأمة في كونه مجرد أنهار دماء تجري، وعهود زاخرة بالظلمات والقهر والطغيان… حقَّ الراحل سهيل إدريس حين نفر منه وامتنع عن نشره…

انتهزت سكوت الرجل الثائر وانشغاله بإشعال سيجارته، فقلت:

– أحكامك هاته، يا أستاذ، قد تثير استنكار أزلام شاعرنا وحوارييه، ولو على قلتهم؟

صوّب الرجل إليَّ نظرة فاحصة، وأجاب بهدوء:

– هؤلاء مجرد صنميين مستلبين، أمام شعر طلسمي ملغز لا يفهمونه، تراهم يخزون أنفسهم لقلة فهمهم له وعجزهم عنه ويلعنونها، عوض إدراك العيوب والأعطاب في المنبع والمجرى؛ وبالتالي فهم إجمالا عديمو الحس النقدي والفطنة والبصيرة، وهم عبارة عن قردة وأقزام حين يقلدون ويقدسون، فلا تكن منهم بل ثرْ على شانطاج الشيخ وانسفه نسفا… أما أنا فلا أعبأ بأولئك ولا بمعبودهم… إنما في المقابل اقرأْ لكبار شعراء العالم، ومنهم فقيدنا العزيز محمود درويش الذي ظل صاحبنا مريضا به وبغصصه إزاءه، مكلوما بفعل إقبال الجماهير عليه وحبهم لشعره وفكره وشخصه…

راجع افتتاحيتيْ درويش في مجلة الكرمل: “كثُر الشعراء وقلَّ الشعر” و”أنقذونا من هذا الشعر”، أيّ ما يسميه ابن رشد شعر “الشعراء المموهين” و”شعراء الزور”!… مع هؤلاء يمسي اليوم العالمي للشعر مزحة بل مهزلة… مضحك هو ادعاؤهم، لتبرير هذا الاحتفال السنوي، بأنّ الشعر ينشر بين ساكنة الأرض قيم المحبة والجمال والسلام… حين أنظر في تصريف هذا الإدعاء من حولي في سلوكياتهم، لا أجد له من الحقيقة والصحة نصيبا، ولو بمقدار، وأصعق بهول نفاقهم وتخبطهم… الشعر! ولمَ لا النثر أيضا، والتشكيل والموسيقى والرقص، وغير ذلك من الفنون والآداب؟

المصدر: هسبريس من هنا

اترك تعليقاً