مقالات نقدية

التاريخ بين النهاية والبداية: قراءة في كتاب فوكوياما “بداية التاريخ”

التاريخ بين النهاية والبداية: قراءة في كتاب فوكوياما "بداية التاريخ"


تمهيد

قبل عشرين سنة أو أكثر قليلاً (سنة 1992) أصدر فرانسيس فوكوياما كتابه الذي نال شهرة عظيمة “نهاية التاريخ”، فقد ترجم إلى عدد كبير من اللغات، منها العربية، وفاق ما طبع منه عدة ملايين من النسخ. ومنذ سنتين دفع الكاتب الأمريكي – الياباني الأصل – إلى المطبعة بالكتاب مدار حديثنا اليوم: “بداية التاريخ”، وفي السنة الماضية صدرت الترجمة الفرنسية للكتاب، وإليها نرجع. وفي مقالتنا هذه نسعى إلى الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية:

1 – ما الأطروحة المحورية في كتاب “بداية التاريخ”؟ وما الاستراتيجية التي يتوخاها فوكوياما من أجل إجلاء هذه الأطروحة أولاً، ثم الدفاع عنها ثانياً؟ وما القضايا الكبرى التي تتفرع عن الأطروحة؟

2 – في “بداية التاريخ” استحضار للكتاب الأول (نهاية التاريخ)، فهل الصلة بين الكتابين الأول والثاني قائمة أم متوهمة؟ وإذا كان كذلك، فهل يصح القول إنّ المؤلفين يخدمان، كل على نحو، قضية واحدة، أم إنّ الشأن غير ذلك؟

3 – هل يمكن الحديث عن قيمة مضافة في كتاب “بداية التاريخ”، حسبما يدّعي ذلك المؤلف، أم إنّ الأمر غير ذلك؟ وبالتالي فهل هنالك جديد يمكن الاحتفاظ به، ويصح اعتباره رصيداً إيجابياً يسجل لصالح المفكر الأمريكي – الياباني الأصل، أم إنها الأيديولوجية فقط تصول وتجول طليقة في الميدان؟

بيد أنه ينبغي لنا، توطئة للإجابة عن الأسئلة الثلاثة المذكورة، أن نمهد بوقفة قصيرة أولى نسعى فيها إلى تسليط بعض الضوء على المؤلف تكويناً ومنهجية وسياقاً معرفياً عاماً، أو ما يصح نعته بالملامح العامة للمعرفة الأمريكية الإنسانية (نسبة إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة). ووقفة ثانية، أطول وأكثر إلحاحاً بالنسبة لما نود محاولته، وقفة نعمل فيها على القيام بتلخيص موضوعاتي (نسبة إلى الموضوع، وبعيداً عن ادعاء الموضوعية التامة، فذاك بطبيعة الحال وهم، نتجنب، ما وسعنا الشأن، الوقوع في شركه). لنقل في عبارة أخرى إننا نستهدف الوقوف عند مورفولوجية الكتاب بغية الخروج بخلاصة تركيبية تبسيطية معاً.

أولاً: فوكوياما والتقليد المعرفي الأمريكي

ما ننعته بالتقليد المعرفي الأمريكي، تمييزاً له عن التقليد المعرفي الأوروبي عامة والفرنسي خاصة، هو المنحى الذي يتمّ الأخذ به في العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، اعتماداً على منهجية تحرص على مراعاة جملة من الشروط المنهجية: أولها اعتماد الدراسات المقارنة؛ إذ من القواعد المقررة في هذا الصدد أنّ من لم يكن يعرف سوى نموذج واحد أو مثل واحد فقط فهو في الحقيقة لا يعرف شيئاً، ومن ثمّ فإنّ الدراسات السياسية والاجتماعية، فضلاً عن الأبحاث الأنثربولوجية تعتمد المقارنة بين المجتمعات والأمثلة المختلفة من أجل فهم الحالة موضوع البحث، وهذه المقارنة تصبح شرطاً ضرورياً لتحقق المعرفة العلمية. ومن المعلوم أنّ ماكس فيبر قد كان، في دراساته كلها، رائداً في هذا الميدان وقدوة سار الدارسون الأمريكيون خاصة على الأخذ بها، ومن ثم المكانة المحورية التي نعلم له اليوم في حقول السياسة والاجتماع ثم الاقتصاد إلى حد ما. وثاني خصائص المنهجية المشار إليها هي التشبع بالمنهج الوظيفي، كما يتجلى عند مالينوفسكي في مجال الأنثربولوجيا وعند إيفان بريتشارد في العلوم الاجتماعية والسياسية، والفضل في تبوأ هذا الأخير للمكانة التي يجعلها له علماء السياسة ورجال الاجتماع يرجع إلى ماكس فيبر ذاته. وأمّا ثالث الخصائص عندنا فهي التشبع بالنزعة البراجماتية في الفلسفة، والمنحى النفعي في الأخلاق، إضافة إلى مقتضيات النظرية الكنطية ومستلزماتها في فهم مبدأ التعاقد الاجتماعي وموجهاته، وهذا ما يظهر، على سبيل المثال، بوضوح عند جون راولز في أحاديثه في العدالة وفي الليبرالية السياسية. وأمّا الخاصية الرابعة الأساس والأخيرة، من جهة نظرنا على الأقل، فهي التشرب الكامل لما ننعته بالأيديولوجية الليبرالية المنتشية بانتصارها أو تلك التي تعتقد أنّ الحال بالنسبة لها كذلك. ولعل المفكرين الأكثر دلالة على هذه النظرية، وربما الأقوى تمثيلية لها عندنا، هما صامويل هانتنغتون (كما عرفناه من خلال “صدام الحضارات”)، وتلميذه وأحد مريديه المشهورين صاحبنا هذا، فرانسيس فوكوياما (على النحو الذي يظهر في كتابه الأول والأشهر “نهاية التاريخ”).

ينتسب فوكوياما إلى هذا التقليد، والحق أنه قد تهيأ لذلك بأسلحة معرفية قوية، بدلالة ما نلمسه في الكتابين الأول والثاني من المعرفة الشمولية ومن القدرة على الإبحار بعيداً في ميادين المعرفة المتعددة الميادين. فالرجل قد درس الفلسفة في جامعة أمريكية كبيرة هي جامعة كورنل، ودرس العلوم السياسية في هارفارد، كما أنه نال شطراً هاماً من الآداب من الدروس التي تلقاها في المدرسة العليا للأساتذة في باريس – تلك التي يفخر بها الفرنسيون – وحضر فيها دروس الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ومحاضرات عالم السيميولوجيا الأشهر رولان بارت. ثم إنّ فوكوياما لا يكتفي بالانتساب إلى التقليد المعرفي المشار إليه، بل إنّ لديه طموحاً قوياً في أن يسم بميسمه عالم النقد المعرفي؛ فهو لا يفتأ، من جهة أولى، يوجه سهام النقد لما ينعته بالنظرية الكلاسيكية في التحديث، وهي المدرسة التي يعتبر ماكس فيبر رئيسها والمقدم فيها. وهو، من جهة ثانية، يطمح إلى أن يجد لنفسه موطئ قدم في مجال التأصيل الجديد للمعرفة السياسية سائراً على درب أستاذه هانتنغتون.

تلك إذن هي الوقفة الأولى أو التنبيه الأول الذي نراه ضرورياً للنظر في الكتاب موضوع القراءة. أمّا الوقفة الثانية التمهيدية فهي، كما أشرنا إلى ذلك، النظر التلخيصي في محتويات الكتاب على النحو الذي يقدمه صاحبه، لا على النحو الذي نرى أنّ قراءتنا للكتاب تفيده.

ثانياً: مورفولوجيا كتاب “بداية التاريخ”

يتعين التنبيه أنّ للكتاب في الترجمة الفرنسية عنواناً فرعياً هو: من أصول السياسة إلى أيامنا هذه، وفي ذلك مغايرة للعنوان الأصلي باللغة الإنجليزية، ولسنا نتبين السر في ذلك، والعنوان الإنجليزي للكتاب هو:

The origins of Political Order: from prehuman times to the French revolution.

يشتمل الكتاب (من حيث انتظامه) على خمسة أقسام: ما قبل الدولة – البناء الدولتي – سلطة القانون – المسؤولية الحكومية – نحو نظرية في التطور السياسي. بيد أننا سنرجئ الكلام عن الفصلين الأول والثاني من القسم الأول، وكذلك الحديث عن القسم الخامس إلى نهاية عرضنا (لأسباب سنستبين وجاهتها لاحقاً)، ونخصص لكل قسم من الأقسام الثلاثة حيزاً نعرض فيه لمضامينه الكبرى وقضاياه الأساسية.

يقول فرانسيس فوكوياما في محاولة التعريف بموضوع الكتاب (ذلك أنّ الأمر يتعلق بمحاولات متعددة وليس بقول حاسم): “يتوخّى هذا المؤلف أن يملأ العديد من الثغرات التي أحدثها مرض فقدان الذاكرة التاريخية، وذلك بالتعرض لمنشأ المؤسسات السياسية الأساسية في المجتمعات التي تنظر اليوم إلى تلك المؤسسات كما لو كانت أموراً طبيعية. يتعلق الأمر بالمؤسسات الثلاث التالية:

– الدولة

– سلطة القانون

– المسؤولية الحكومية

“وإنّ الديمقراطيات الليبرالية الحديثة الناجحة هي تلك التي تأخذ بهذه العناصر الثلاثة وتفلح في إخضاعها لتوازن قار”. (الصفحة 31)

غير أنّ الواقع، حسب فوكوياما، هو أنّ الدول التي استطاعت أن تحقق الجمع الموفق بين المكونات الثلاثة دول قليلة من الناحية العددية. في طليعة تلك الدول القليلة تأتي مملكة الدانمارك، تليها الديمقراطيات الغربية في أمريكا الشمالية وفي دول أوروبا الغربية وباقي البلدان الإسكندينافية، وفي أسفل القائمة نجد الصومال، وما شابهه من البلاد، أمثلة للضعف في المناحي الثلاثة. وعلى العموم فنحن نجد أمثلة متنوعة (دول شرق آسيا، دول أمريكا اللاتينية…) يحضر فيها عنصران ويغيب الثالث. من ذلك، مثلاً، أنّ أفغانستان قامت بتنظيم انتخابات ديمقراطية في سنة 2003، غير أنها لم تتمكن من بسط سلطان القانون على كافة أراضيها لأنّ حكومتها كانت في غاية الضعف. وعلى العكس من ذلك تتوفر سانغفورة على حكومة قوية وعلى حضور مهاب الجانب لسلطة القانون، “هو مما ورثته عن الوجود الاستعماري فيها، بيد أنه لا وجود فيها إلا لشكل خفيف من أشكال الحكومة المسؤولة سياسياً”. ويأتي فوكوياما بمثال يحلو له أن يكرره في كتابه عدة مرات وهو مثال روسيا نموذجاً لاجتماع شرط الحكومة القوية والانتخابات الديمقراطية مع انعدام هيبة القانون، إذ جماعة ألكسندر بوتين، كما يصفها، لا تتورع عن العبث المستّر بالقانون في غيبة عن كل مساءلة قضائية. وأمّا تفسير ذلك فيرجع عند فوكوياما إلى مظاهر الفساد التي تشوب التفسيرات الكلاسيكية التي تشرح كيف تم الانتقال من عوالم ما قبل الحداثة إلى الأزمنة الحديثة. فأمّا العيب الأول في التفسيرات الكلاسيكية فيكمن في النظرة التي تجعل من أوروبا براديغم التحديث، في حين أنّ الأمر غير ذلك كما سيتضح لاحقاً. وأمّا العيب الثاني فمصدره الاعتقاد بأنّ الانتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى لاحقة عليها يتم في صورة قطيعة تامة بين المرحلتين السابقة واللاحقة. وأمّا العيب الثالث فالسبب فيه التوهم بأنّ التحديث يتمّ في نقلة واحدة تشمل مناحي ومستويات شتى، في حين أنّ الواقع غير ذلك. وتبين مغزى هذه العيوب الثلاثة المذكورة يمثل عند فوكوياما استطراداً ضرورياً ينبني عليه فهم الأطروحة التي يدافع عنها.

ليس صحيحاً أنّ ميلاد الدولة الحديثة (أو الدولة في المعنى الحديث للكلمة، ذاك الذي يعني توافر جملة من الشروط على النحو الذي نجده عند ماكس فيبر) قد حدث في أوروبا منذ ثلاثة قرون فحسب، بل إنّ النظر الفاحص والمقارن في تاريخ الحضارات العظمى يعلمنا أنّ البلد الذي كان له السبق في إنتاج الدولة الحديثة هو الصين، وقد كان لها ذلك قروناً عشرة قبل الميلاد. ذلك أنّ الصين القديمة، كما ينظر إليها المؤلف، استطاعت أن ترسي معالم بيروقراطية إدارية قوية، وأن تستجمع أسباب سلطة مركزية ناجعة. كما أنّ الصين القديمة تمكنت من فرض الولاء للدولة، فعوضاً عن الولاء للعشيرة أو الأسرة يكون الخضوع حصراً للدولة في صورتها المجردة. غير أنّ الصين لم تعرف، في المقابل، استقلالاً للقانون (أيّاً كان الاستقلال ضعيفاً، فذاك ما يؤكده فوكوياما مرات عدة) عن إرادة الإمبراطور وقوله، وإنما القانون هو ما كان الإمبراطور يريده وينطق به. والشأن في الحكومة المسؤولة كان (وما يزال تحت الحكم الشيوعي اليوم) منعدماً، فلا اعتراف بوجوب مراقبة أو محاسبة للحكومة من قبل الشعب.

وأمّا الحديث عن انفصال أو قطيعة بين المراحل التاريخية فوهم كاذب في قول صاحب “بداية التاريخ”، فما تزال العائلة ذات حضور قوي في المجتمع الصيني، وما تزال القبيلة فاعلة في مناطق عديدة من العالم، وما تزال هناك بقايا ممارسات كان المعتقد أنها قد كفت عن الوجود منذ قرون عديدة، والمؤلف يراكم الأمثلة على ما يرسل من قول، فهو يستطرد كثيراً في مختلف الفصول التسعة والعشرين التي تكوّن لحمة الكتاب.

وأمّا العيب الثالث الذي يراه فوكوياما لما يسميه “النظرية الكلاسيكية في التحديث” (وهو في الواقع وصف عام أو مفرد ينوب عن الجمع كما يقول النحاة العرب، فهو يقصد به مجمل الآراء التي نعرفها -على الخصوص – لكل من ماركس ودوركهايم وماكس فيبر وآخرين أقلّ شهرة)، فهو اعتقادها أنّ التحديث يتم دفعة واحدة ويشمل مختلف مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والفكر، والحال غير ذلك؛ لأنّ التطور، ومن ثم سيرورة التحديث، قد تكون في مستوى أسرع منها في آخر غيره، كما أنها قد تمس، في جهة من العالم، مجالاً دون غيره، وقد يتعاصر التأخر الشديد في مجال الحياة السياسية على سبيل المثال مع تقدم هائل في مستوى إنتاج الفكر.

لا يقتصر صاحب “بداية التاريخ” على مثال الصين فحسب، بل إنه يقف وقفة مطولة عبر فصلين اثنين عند الهند من أجل النظر في نشأة الدولة والانتقال من القبيلة إلى الدولة، وهو في ذلك يقارن بين البلدين. عرفت الصين، طيلة تاريخ امتد قرابة العشرين قرناً، الدولة الواحدة التي لم يخل فيها بالوحدة سوى فترة قصيرة من الاستعمار البريطاني (ثم نشوء دولة الصين الوطنية)، في حين أنّ الهند كانت خلاف ذلك فلم تتحقق فيها وحدة الدولة إلا بتوسط المرحلة الاستعمارية البريطانية. وفي مقابل ذلك عرفت الهند بداية استقلال للقانون عن الدولة لعبت فيه الديانة البرهمية دوراً فاعلاً، في حين أنّ الأمر كان خلاف ذلك في الصين.

يخصّص فوكوياما لما ينعته بدول الشرق الأوسط الإسلامية فصولاً ثلاثة كاملة. والدول المقصودة هي الدولة الغزنوية ثم الأيوبية، فحكم المماليك في مصر ثم الإمبراطورية العثمانية، بعد أن يكون قد وقف وقفة غير قصيرة عند ظهور الإسلام وعند نبيه (صلوات الله عليه) علامة على دور الكاريزما والشخصية الكاريزمية في التاريخ، ويكون قد وقف عند ما يعتبره، عند العباسيين، حدوث الانتقال من القبيلة إلى الدولة، وذلك في عمل التوجه في بناء الجيش إلى عناصر غير عربية، فهي لا تدين بالولاء لقبيلة من القبائل العربية ولا تتشوف إلى التحالف معها، وإنما ولاؤها كان للخليفة العباسي شخصياً ولدولته تحديداً. وما استوجب اهتمام فوكوياما في دول الشرق الأوسط الإسلامية (كما ينعتها) هو العامل الذي استطاع أن يلعبه “الرق العسكري” في نشوء الدولة وقوتها، بل في حفظ الإسلام ذاته على النحو الذي يجده في انتصار دولة “الرق العسكري” على الصليبيين. إنه لأمر دال أنّ يجعل فرانسيس فوكوياما عنوان أحد فصول الكتاب هكذا: “المماليك ينقذون الإسلام”. وبموجب النظرة التي يأخذ بها الرجل فإنّ المسيحية، دون غيرها، هي الديانة التي استطاعت أن تحدث في التاريخ البشري الخلخلة الكبرى التي تمّ بموجبها الظهور الفعلي في التاريخ للمكون الثاني الكبير للديمقراطية الليبرالية وهو: سلطة القانون.

لعل الفكرة العامة التي يحرص المؤلف على دعمها في القسم الثالث من الكتاب هي أنّ سيادة القانون واستقلاليته (في معنى اعتباره المرجعية العليا القائمة بذاتها)، في تمايز عن الدولة، هي ما انفردت الصين بعدم معرفته في تاريخها الطويل. ومثلما كان ظهور الدولة، في المعنى الحديث للمفهوم، السمة الأساس التي تميز الصين إيجاباً فإنّ الغياب الكامل لسلطة القانون في استقلال عن إرادة الإمبراطور هي ما يميز الصين سلباً في مقابل ذلك. كما أنّ في إمكان الباحث، في مقابل ذلك، أن يتبين في يسر، حسب فوكوياما طبعاً، أنّ كلاً من الهند وبلاد الإسلام قد عرفت حضوراً فعلياً لسمو القانون وارتفاع سلطته فوق سلطة الحاكم، مع تفاوت في الكيفية، بل إنّ القانون في الإسلام يبين عن علوية واستقلالية عاليتين، ومن ثم فإنّ فوكوياما يجد أنّ الإسلام لم يعرف على الحقيقة نظام الحكم الثيوقراطي، وبالتالي فإنّ النظام الذي أعقب ثورة 1979 في إيران “هو أبعد ما يكون عن النظام الإسلامي التقليدي، ومن ثم فلا شيء أكثر خطأ من الاحتفاظ بهذا الزعم” (الصفحتان 274-275)، أمّا سلطة القانون على الحقيقة “فقد وجدت في الغرب قروناً عديدة قبل مقدم الديمقراطية الحديثة (الصفحة 283).

يبقى المكون الثالث من مكونات الديمقراطية الليبرالية الحديثة، أي المسؤولية الحكومية أو الحكومة المسؤولة سياسياً. والقصد منها تلك التي تعتبر نفسها مسؤولة أمام الشعب، والتي ترى أنّ مصلحة الشعب فوق مصالحها، أيّاً كانت تلك المصالح. يذهب صاحب “بداية التاريخ” إلى اعتبار الحكومة المسؤولة على الحقيقة اعتقاد قد تأخر في الظهور لأسباب تاريخية تتعلق بهذه المنطقة أو تلك من مناطق المعمورة. “ذلك أنّ الأمر كان يستوجب الانتهاء إلى تحقيق نوع من التوازن بين الدولة وبين المجموعات الاجتماعية التي تقاوم هيمنة الدولة وتقف في وجه سلطتها المطلقة” (الصفحة 324)، وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تحققه إلا في أوروبا الغربية من جهة أولى وفي أوروبا الشمالية من جهة أخرى، إذ اجتمع في هذه البلاد من الأسباب السياسية والفكرية والاجتماعية ما لم يجتمع في جهة أخرى من العالم. إنها الأسباب الموضوعية التي جعلت أوروبا – ممثلة في الدول موضع الدراسة المقارنة عند المؤلف -، وعلى وجه التحديد الدول التي استطاعت أن تتجاوز الحكم المطلق: سواء في الصورة التي كان عليها في كل من الملكيتين الإسبانية والفرنسية (وفوكوياما ينعت حكم الملكيتين معاً بالحكم المطلق الواهن)، أو الصفة التي كان الحكم المطلق فيها دون منازع فهو عنده “حكم مطلق تام” (وذلك هو حال روسيا القيصرية، وخاصة في عهدي كل من بطرس الأكبر وإيفان المرعب)، أو حيث كان الحكم المطلق في صورة “أوليغارشيا غير مكتملة” (على النحو الذي كانت عليه في كل من بولونيا وهنغاريا). وأمّا الحكومة المسؤولة، في المعنى الدقيق للكلمة أو في دلالته الكاملة، فلم تكتمل أسبابه الاجتماعية والسياسية (بتوسط الكنيسة نوعاً ما من التوسط) إلا في مملكة الدانمارك أولاً، ثم في المملكة الإنجليزية ثانياً. ويمضي المؤلف في استعراض التاريخ المحلي في كل بلد من النماذج الخمسة التي عرض لها، وهذا كله في القرون الثلاثة الأخيرة (الصفحات 324/382).

ثالثاً: أسئلة القراءة

السؤال الأول: ما الأطروحة المحورية في الكتاب؟ وما الأدوات المعرفية المسخرة لخدمتها؟ وما القضايا التي تتفرع عنها؟

لا يهتم فرانسيس فوكوياما بتقديم صريح ومباشر لما يصح اعتباره الأطروحة المحورية التي تجتمع حولها مختلف القضايا التي يعرض لها كتاب “بداية التاريخ”، بل إنه في معنى من المعاني يسعى إلى إخفائها، فهو يموّه على القارئ في الواقع. والحق أنّ الرجل، في صنيعه هذا، ليس فريداً في نوعه وليس في هذا الأمر شذوذ بالنسبة لما يفعله المؤلفون دون قصد.

للأيديولوجية في الفعالية المعرفية حضور قوي وكاسح، فهي لا تكاد تفلت من الطوق الذي تضربه حولها، فهي لا تملك أن تفلت من قبضتها. تظلّ الأيديولوجية موجهاً للمعرفة في المجالات التي تتصل بالفعالية الاجتماعية والسياسية والفكرية للبشر، أي تلك التي ننعتها في المعتاد بالعلوم الإنسانية أو العلوم الاجتماعية أو هما معاً. نوع من الفعالية اللاشعورية المعرفية، ودور “القراءة” يقوم – على وجه التحديد – في محاولة الكشف عن “الخفي” من خلال ملاحقة النص بالسؤال تلو السؤال، في عملية “استنطاق” تستهدف حمل النص على النطق بما لا يريد البوح به.

ماذا يريد فوكوياما أن يخفي؟ وعلى أي نحو يفعل ذلك؟ أو كيف تفعل الأيديولوجية فعلها الخفي في البناء المعرفي عند فوكوياما في الكتاب موضوع نظرنا؟

يرفع المؤلف ذكر الصين القديمة عالياً، فهي البراديغم الواجب اعتماده وليس التاريخ الأوروبي، وفي هذا الموقف انتقاد ضمني لما يصح نعته بنزعة المركزية الأوروبية (européocentrisme)، ولكن تلك الصورة سرعان ما تأخذ في الاختفاء لتحل محلها صورة الاستبداد المطلق الذي يلاحق الصين، مثل القدر الذي لا تملك أن تنفك منه. ذاك هو الشأن في الصين حالياَ، حيث لا يوجد هنالك البتة فرق بين السلطان المطلق للإمبراطور الصيني – على النحو الذي يصوره – وبين سلطان الحزب الشيوعي الصيني اليوم. يبدو الباحث كما لو كان يقف وقفة تأمل منصف للتاريخ الإسلامي، وهو يفعل ذلك في حدود ضيقة وليس يحتفظ من الإبداع الإسلامي سوى بصورة “الرق العسكري” دون غيرها، وذلك الرق هو الذي أنقذ الإسلام، وحال بينه وبين عجلة التاريخ أن تطويه كليّة. يتحدث عن شمولية الدعوة الإسلامية والحرص النبوي على مجاوزة القبيلة والجماعة “الوطنية” نحو الشمولية والعالمية، ولكنه لا يرى النقلة الفعلية التي تمّ بموجبها ميلاد القانون سلطة عليا مستقلة إلا على يد الكنيسة في العالم الكاثوليكي. نحن نقترب إذن من ملامسة ما يسعى فوكوياما إلى إخفائه، بيد أننا نتبين ملامحه: إنّ التاريخ البشري الذي يريده فوكوياما أن يكون دليلاً على تحقق الانتصار النهائي لليبرالية الديمقراطية (ومن ثمّ “نهاية التاريخ”) لا يتحقق من ورائه هذا القصد فحسب، بل إنه يتجاوز ذلك لإذكاء طابعي الشرعية والمشروعية على التاريخ الغربي، أي التاريخ الذي يرفض له أن يكون مرجعاً ومقيساً عليه، ليغدو التاريخ الوحيد الواجب اعتباره في الارتقاء الصاعد في البحث عن الجذور العميقة والبعيدة لهذه الليبرالية المنتشية بانتصارها. لا يرفع فوكوياما من ذكر الصين حيناً ومن ذكر الإسلام حيناً آخر (وإن كان ذلك على نحو أقل ومن أجل خدمة “أجندة أخرى”) إلا من أجل إظهار ضعف المرجعتين معاً في مقابل الانتصار للتاريخ “المحلي” للديمقراطية الليبرالية الغربية. شيء يذكر بما يقرره صامويل هانتنغتون في “صدام الحضارات”، إذ يرى أنّ الغرب (كتلة واحدة) لم يعد أمامه سوى عدوّين أو خطرين اثنين – مع تفاوت في الأهمية – هما الصين والإسلام. منذ الصفحة الأولى من الكتاب لا يني فوكوياما عن القول (وعن التذكير) بأنه يسير في خط تأكيد ما كان عند أستاذه حدوساً وفرضيات، فهو يريد أن يقوم بعمل التأصيل المعرفي لها، وإذا كان المؤلف يهدي كتابه إلى “ذكرى صامويل هانتنغتون” فإنّ الإهداء لا يخلو من الدلالة التي تتجاوز محض الوفاء لذكرى المعلم لتغدو اشتراكاً في المشروع الكبير الذي يعلنه الأستاذ في كتاب “صدام الحضارات” والتزاماً بالسير على خطواته ودربه.

هذا النحو من النظر إلى الأمور، وهذه الكيفية في اعتبار ما يبدو أنّ فوكوياما يسعى إليه، تحملنا على التقدير بأنّ الأطروحة المركزية عند فرانسيس فوكوياما هي التأسيس النظري لأيديولوجية الديمقراطية الليبرالية المنتصرة، تلك التي يكون انتصارها في صورة ظهور القطبية الأحادية المنتصرة.

هذا النحو من النظر إلى الأمور، ومن ثمّ تركيب ما ندعي أنه الأطروحة المركزية في كتاب “بداية التاريخ” هو ما يحملنا على طرح السؤال الثاني الذي نعالجه في الفقرة الموالية.

السؤال الثاني: هل أسباب الصلة تنعدم أم توجد بين الكتاب الأول “نهاية التاريخ” وبين الكتاب الحالي “بداية التاريخ”؟

نحسب أنّ الجواب بيّن بذاته، وإذا كان فوكوياما لا يكاد يحيل على كتابه الأول إلا في أحوال نادرة، وكان لا يفعل ذلك إلا من أجل التذكير بمسألة “الاعتراف” التي تستوجبها جدلية العبد والسيد عند هيجل، فإنّ الجواب عن ذلك تقدمه الفعالية الأيديولوجية مرّة أخرى. إنّ هذا الموقف يحسب على مكر الأيديولوجية ويجد تفسيره في الكشف النافذ عن أساليب العمل عندها. هي لعبة الخداع والتمويه في أنصع ما تكون صورة وجلاء. أكاد أقول إنّ الشأن يشبه التمرين المدرسي أو النموذج التقليدي الذي يبين صاحبه بواسطته عمّا تطيقه الأيديولوجية وتحسن صنعه. لا يتعلق الأمر بوجود صلة، ليست في حاجة إلى تقديم الدليل عليها فهي بينة بذاتها، بين الكتاب الأول الصادر منذ سنوات قليلة بعد انهيار جدار برلين وبين الكتاب الأخير الذي كتب في أجواء ما بعد 11 سبتمبر، وبعد الأزمات الاقتصادية المتتالية التي عرفتها دول الغرب الأوروبي والأمريكي تباعاً، بل إنّ الشأن أبعد من ذلك. “بداية التاريخ” يسعى إلى أن يكون (كما تفيد ذلك قراءة المدخل على نحو وقراءة القسم الخامس (الأخير والقصير معاً من الكتاب) على نحو آخر تأكيداً وتعميقاً للأطروحة المحورية في كتاب “نهاية التاريخ”، وإسهاماً في التنظير لنمط جديد من العلاقات بين الدول في العالم، هو ذاك الذي تكون “العولمة” تبشيراً به، إنه التأصيل النظري لنظرية الأحادية القطبية المنتصرة أو التي ما تزال تجتهد وتجاهد من أجل الاقتناع بانتصارها أولاً، ثم إقناع الغير بذلك الانتصار ثانياً.

متى بلغنا هذا المدى من التحليل، نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام نافذة أخرى تنفتح أمامنا؛ نافذة نتبين من خلالها مغزى الطموح التنظيري القوي الذي يلازم فوكوياما، ومن ذلك حديثه المتكرر عن “النظرية الكلاسيكية في التحديث”، ومن ثم لزوم مجاوزتها. لعل أول، وربما أخص ما تبين لنا في الفقرة السابقة، أنّ النقد ذاك يكاد يكون مدحاً بما يشبه الذم (ما دام الأمر يؤول بنا في نهاية المطاف إلى البراديغم الأوروبي عندما يتعلق الأمر بنشأة سلطة القانون من جانب أول، وظهور مبدأ “الحكومة المسؤولة أو المسؤولية الحكومية” من جانب ثان. الطموح التنظيري عند صاحب “بداية التاريخ”، إذ يتوسل بقراءة معينة للتاريخ، فإنّ ذلك يكون من أجل إصابة هدف يرسمه الحاضر، وتحدد مستلزمات الحاضر كافة أبعاد الهدف ومقتضياته. أليست إحدى المهام الأساسية للأيديولوجية هي إعادة قراءة الماضي (التاريخ) على النحو الذي يريده الحاضر وتقتضيه مصلحة من تعنيه السيطرة على الحاضر؟

لا تفهم محاولة فرانسيس فوكوياما في البحث عن الصلات الممكنة أو الضرورية بين الكتابين الأول والثاني للمفكر الأمريكي ذي الأصول اليابانية في ذلك البحث، بل إنها تستوجب البحث عن العلاقة بين المفكر وأستاذه وملهمه صامويل هانتنغتون، والفكرة التي كان يدعو إليها، وكذلك حماتها والمستفيدون منها.

السؤال الثالث: ما القيمة المضافة في كتاب “بداية التاريخ” من جهة المعرفة التي تتصل بالعلوم الإنسانية؟

لا يمكن التغاضي عن الجهد المبذول في الكتاب من جهة المعرفة التاريخية، أياً كان الاختلاف أو الاتفاق مع المؤلف في تأويل الأحداث التاريخية وفي تركيبها، وهذه، متى أمكن الفصل بين الجهد المبذول في جمع المادة المعرفية وبين تأويلها، نقطة إيجابية بل إضافة تضفي على الكتاب قوة وتبين عن تماسك في منطقه وترابط عضوي بين مكوناته.

أمر ثان يستوجب التنويه، هو ذاك الذي يتعلق بانفتاح الباحث على النظرية البنيوية في المعرفة التاريخية وفي المعرفة الاجتماعية وهي ما مكّنت الباحث من “الجراءة” على ما يرنو إليه من نقد “النظرية الكلاسيكية في التحديث”، تلك التي تعتبر أنّ التحديث سيرورة منسجمة تتساوى فيها خطوات السير بين المكونات كلها (الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والفكرية…)، والحال أنّ الأمر يتعلق بمستويات متفاوتة، فقد يكون السياسي متقدماً على الاقتصادي، وقد تكون عجلة السير في البنية الفكرية أسرع منها في عمل البنية السياسية أو الاقتصادية أو الاثنتين معاً. وفي التاريخ الإنساني أمثلة تدل على إمكان تلك الأمور كلها.

أمر ثالث هام يسترعي الانتباه ويستدعي التنويه، وهو المجاهرة بوجوب مراجعة العديد من الأحكام العامة المتداولة منها، على سبيل المثال تلك التي تتعلق بفهم طبيعة النقد الذي توجهه الحركات الإسلامية للغرب، ومنها الفهم الخاطئ للثورة الإيرانية، ومنها تلك التي ترى في النظام السياسي في الإسلام نوعاً من الدولة “الثيوقراطية”، على النمط الذي عرفته أوروبا. وإذا لم يكن فوكوياما يصرّح بالأمر على النحو الذي نقول فإنه، على كل، يؤكد المعنى الذي نقصد إليه ويسانده.

غير أنّ الكتاب، خارجاً عن الغلاف الأيديولوجي الذي يغله ويحجب عنه الرؤية الواضحة، يشكو من ضعف وسوء تماسك قويين في القسم الذي ألمحنا إلى الإشارة إليه في أول هذه الورقة، إلى أننا نرجئ القول فيه إلى الأخير، وها نحن نفعل.

يطلعنا المؤلف في مدخل الكتاب على المنهجية التي يقول إنه سيسلكها، وهي منهجية تقوم على الأخذ باجتناب القول بالانفصال بين مجالات البحث في العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية، بل والاقتصادية إلى حد ما. كما أنّ المنهجية المعتمدة تسعى، كما يتحدث المؤلف عنها، إلى التوسل بالنتائج المعرفية المكتسبة، بالإضافة إلى العلوم الإنسانية في حقول كل من الأركيولوجيا والبيولوجية. فأمّا الأركيولوجيا فإنّ الكاتب يسكت عنها جملة وتفصيلاً، وربما كان الأصح أن نقول إنه يكتفي بالإشارة إليها على استحياء. وأمّا البيولوجية فهو يقدم على مغامرة الخوض فيها، غير أنه لا يقوى على الإبحار بعيداً، أو قلْ إنه بالأحرى يلقي بنفسه في بحارها على نحو لا يختلف كثيراً عمّا يفعله الباحث المبتدئ، أو الباحث الذي يكتفي بالاعتماد على الأدوات المعرفية التي يأخذ بها غيره.

يعلن المؤلف عن نيته في الصعود في البحث عن “بداية التاريخ” القهقرى إلى المراحل السابقة على ظهور الإنسان على الصورة الآدمية التي هو عليها الآن، بمعنى النظر في أجداد الإنسان من الثدييات عامة ومن فصيلة الشامبانزي خاصة، وفقاً لما تقضي به نظرية التطور كما يصوغها تشارلز داروين وكما يقضي به المنطق الذي تعمل تلك النظرية بموجبه. غير أنّ فوكوياما لا يملك أن يفلت من المزالق المعرفية التي تقع فيها النظرية الداروينية، وخاصة ما تعلق منها بفرضية “الطفرة” التي تم بموجبها الانتقال من حالة الحيوان الذي يمشي على أربع إلى حالة “الإنسان الذي يمشي سوياً”، أو Homo-erectusكما يسميه علماء البيولوجية. ومن تاريخ العلوم عامة، ومن الحقل المعرفي الذي يتصل بالإبستيمولوجيا خاصة، نفيد قاعدة بسيطة، وهي أنّ النظرية التي تفيد نجاعتها في حقل من حقول المعرفة الدقيقة ونطمح إلى الاستفادة منها في حقل من حقول المعرفة التي تتصل بالعلوم الإنسانية تستوجب التدرج في المعرفة، ارتقاء من العلوم الأقل اتصالاً بالتجريد والأكثر اتصالاً بالتعقيد. وقياساً على هذا القول فليس من الممكن أن نغامر بنقل معطيات ثبتت صحتها ونجاعتها في حقل الكيمياء أو البيولوجية (وهي أكثر تعقيداً وأكثر خضوعاً لمنطق الاحتمال وابتعاداً عن منطق الحتمية الضرورية) إلى مجال علم النفس، مثلاً، دون التأكد من قوتها ونجاعتها في ميدان وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا). فكيف تكون النقلة، في مستوى الاقتباس، من البيولوجية إلى التاريخ وهو مجال التعقيد والاحتمال وبالتالي الابتعاد عن البساطة والعصي على التجريب بل والمتعذر المستحيل؟

تدفعني قراءة الكتاب المتأنية، وأدّعي أني قد فعلت، إلى طرح السؤال التالي: ماذا لو أنّ المؤلف حذف من الكتاب الفقرات المتعلقة بأجداد الإنسان من الثدييات، في الحقبة ما قبل الآدمية، فهل يقع الاختلال في جهة ما؟ والجواب عندنا، وإننا ندّعي أنه لا شيء من الكتاب يختل، بل إنّ الأصح هو أنّ جزءاً قد أقحم في المتن إقحاماً يخفف العبء على الكاتب والقارئ معاً، والدليل القوي على ذلك عندنا هو أنّ المؤلف، إذ يرجع إلى قضية الثدييات أصلاً للإنسان و”بداية للتاريخ” في الفصل ما قبل الأخير وتحديداً في الفقرة التي يجعل لها عنواناً “الأسس البيولوجية للسياسة”، فإنه يكون قليل الغناء ضعيف الإقناع، يعسر عليه ما يدعوه العرب حسن التخلص.


*– نشر هذا المقال في مجلة “يتفكرون”، العدد السابع، 2015، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

المصدر : موقع مؤمنون بلا حدود من هـــــــنـــــــا

اترك تعليقاً