الفكر الحر مقالات نقدية

الجوائز العربية.. المكافأة المبتورة

سعيد يقطين

 تشجيع الإبداع الفني والعمل العلمي من المقومات الضرورية للتطور والتقدم، ليس فقط في التحفيز على الإبداع وتوفير مستلزمات البحث العلمي، ولكنه أيضا دليل على الحرص على التطوير من لدن المشجعين، والإحساس بالاهتمام لدى المبدعين والعلماء الذي يؤدي إلى المنافسة الشريفة التي تسهم في تفتيق المواهب والتضحية من أجل إنتاج المفيد والمختلف.

لذلك نجد أنه متى كانت الحوافز المشجعة قوية ومتعددة، كانت النتائج مهمة في رفع مستوى الإنتاج الفني والعلمي. ومتى حصل العكس عرف الإنتاج انكماشا وتقلصا.

عندما نقارن مثلا الميزانيات الهائلة المخصصة للبحث العلمي في الدول المتقدمة، وخاصة في أميركا، والجوائز العالمية التي تنفرد بها السينما الأميركية ندرك السبب الرئيسي وراء ازدهار البحث العلمي ووراء انتشار الفيلم الأميركي وهيمنته على المستوى العالمي.

إن الميزانيات التي تدفعها المؤسسات المالية الأميركية تسهم إسهاما كبيرا في تطوير البحث العلمي، ليس فقط في أميركا، ولكن في العالم أجمع. ويكون من نتائج ذلك حصد منجزات هذا البحث جوائز عالمية. ويكفي أن نعاين نتائج جائزة نوبل السنوية في العلوم لنلاحظ المكانة التي يحظى بها العلماء الذين يشتغلون في أميركا، وهم بالمناسبة من جنسيات متعددة وجدوا في أميركا الفضاء الملائم للتشجيع والتحفيز.

ويمكن قول الشيء نفسه عن الإنتاج السينمائي الأميركي إنه يغزو العالم بسبب الدعم الذي يتلقاه، ولذلك يظل متميزا عن غيره بما يتوفر عليه من إمكانيات مادية، والحصيلة التميز الذي يؤهل السينما الأميركية للفوز بالجوائز العالمية.

لا تكون المقارنة بين التجربة الأميركية والعربية ملائمة لوجود الفارق بين التجربتين. لكننا نؤكد من وراء ذلك أنه متى كان التشجيع أو التحفيز قائما فإنه يسهم في توفير البيئة الملائمة للإبداع الفني والأدبي والمتميز، والإنتاج العلمي الذي يسهم في تطوير المعرفة الإنسانية.

ولعل مقارنة ماضي العرب بحاضرهم على هذا المستوى يبين لنا الفرق الشاسع بين الأمس واليوم. لقد تطورت الحضارة العربية الإسلامية وكان لها حضورها وتأثيرها في زمانها نتيجة الدور الذي اضطلع به الخلفاء والأمراء والولاة في تشجيع الكتاب والشعراء واستقطابهم إلى الحاضرة التي يوجدون فيها، وإكرامهم بعلاوات مغرية للتفرغ للكتابة والبحث، أو تخصيصهم بإقطاعات توفر لهم مدخولا يجعلهم لا يفكرون إلا في البحث والإبداع. وكانت نتائج ذلك غزارة الإبداع والإنتاج وعمقهما الفني والمعرفي.

ولعل البحث في دور بعض هؤلاء الخلفاء والأمراء والولاة في تشجيع الثقافة والإنتاج كفيل بجعلنا نرى بوضوح الفرق الكبير بين الأمس واليوم. ولعل البحث نفسه يكشف لنا بالملموس أنه متى تقلص تشجيع الثقافة من لدن المسؤولين كان تراجع الإبداع والإنتاج.

منذ بضعة عقود، بدأ العرب في شخص بعض الملوك أو الرؤساء أو بعض الشخصيات الإبداعية أو المالية أو المؤسسات المالية والعلمية، يسهمون في خلق جوائز للإبداع الفني والأدبي والفكري والعلمي والتميز الرياضي. وصار التنافس الحميد بينهم في تطوير التشجيع بخلق أسباب محفزة للمشاركة في الجوائز التي يخصصونها سنويا أو كل سنتين، مع الإشارة إلى أن الحضور الكبير لذلك يتركز في دول الخليج العربي.

نشير مثلا إلى جوائز الملك فيصل العالمية وعبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، وعبد الحميد شومان للباحثين العرب الشبان والعويس والشيخ زايد للكتاب ودبي الثقافية للإبداع وجائزة الإبداع العربي وجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع والجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) وجائزة البحث العلمي، وجائزة “كتارا” القطرية.. فضلا عن جوائز الكتاب التي تنظمها وزارات الثقافة، أو جوائز الدولة التشجيعية، أو الجوائز الخاصة بالسينما أو غيرها من الجوائز الرياضية والشعبية.

 لقد بدأت هذه الجوائز تؤتي أكلها على مستوى الاهتمام الذي باتت تلقاه من خلال المشاركين أو المتتبعين. وفعلا شرعت تقدم لنا بين الفينة والأخرى أسماء جديدة لم تكن معروفة في الساحة الثقافية. ويعتبر هذا في رأيي من أهم إنجازات هذه الجوائز.

فأمام ضعف الإعلام الثقافي العربي واتساع فضاء الوطن العربي وسوء توزيع الكتاب، بات من الصعوبة بمكان التعرف على مختلف أهم الإبداعات أو أعمق الدراسات. وتلعب الجوائز دورا كبيرا في تقديم هؤلاء وتعريفهم إلى القارئ. هذا علاوة على تكريم من لهم إسهامات معينة بالالتفات إليهم وجعل الجمهور الثقافي يرى بأم عينيه أنه ما يزال في عالمنا العربي من يقدر المواهب ويشجع من يعملون من أجل تطوير الثقافة والإنسان العربي.

إن قيمة الجوائز المالية لا يمكنها سوى أن تُسيل لعاب المتهافتين عليها. ورغم كون القيمة المالية لا يستهان بها، فإن القيمة الحقيقية لأي جائزة هو ما يمكن أن تضيفه إلى رصيد المبدع أو المفكر أو الباحث من حضور وتأثير في الساحة الثقافية العربية أو العالمية. وهذا الجانب لا يتم الالتفات إليه في أغلب الأحيان.

لذلك نجد العديد من المبدعين والباحثين يحصلون على جائزة أو أكثر، ولكن لا نجد لهم تأثيرا ولا حضورا في الواقع الثقافي. يؤدي هذا إلى التمييز بين نوعين من الجوائز: النوع الأول منها يُشرِّف الحاصل على الجائزة. أما النوع الثاني فيكمن في أن الحاصل عليها يُشرِّفها.

قد يتشرف شخص ما بالجائزة، ولكن مردوديتها لا تتجاوز الحد المادي الذي حصل عليه. بل إن تشرفه بها لا يضيف إلى رصيده شيئا، هذا إذا كان له فعلا رصيد. ويمكن هنا التذكير بالذي حصل على جائزة بسبب كتاب حول “النقد الثقافي”، ثم سحبت منه بعد تبين ممارسته السرقة الأدبية. لو لم تكتشف السرقة، لكان لهذا الشخص “شرف” الحصول على الجائزة. لكنها لن تغير شيئا من إسهامه الثقافي لأنه بلا إسهام، ولن يكون له أي إسهام.

تشرف بالجائزة من لدن شخص، أو تشرف الجائزة بحصول شخص يستحقها لا تتدخل فيه المؤسسة التي تمنح الجائزة. أسجل هذا من خلال تجربتي الشخصية في لجان العديد من الجوائز. ولكن المسؤول عنه هو اللجنة المحكمة التي تمنح هذا الشرف للجائزة أو للحاصل عليها.

ونثير هنا ما أسميته “القراءة المجيزة” التي تميز بها لجان التحكيم الأعمال المترشحة، والتي هي قراءة من بين عدة قراءات يقع فيها ما يحصل في غيرها من نجاح أو إخفاق. وحين يصيب القراءة المجيزة خلل ما لا يمكن للجائزة إلا أن تكون بتراء.

إن الجوائز العربية رغم أهميتها وفائدتها في التشجيع والتحفيز تظل مبتورة، ليس فقط بسبب القراءة المجيزة، ولكن أيضا بسبب الآثار التي تنجم عنها. إنها تظل حدثا ثقافيا ليس له ما بعده. ولعل الإعلام الثقافي يلعب دورا في ذلك. إن ما ينجم بعد الحصول على الجائزة هو الاحتفاء والإخبار.

ولكن لا يتكلف الإعلام بتوسيع دائرة الاهتمام بالكتاب أو التعريف به أو فتح نقاشات حوله كما نجد في التجارب الأجنبية، حيث تتضاعف مبيعات الكتاب بعد الجائزة، ويصبح صاحبه معروفا وطنيا وعالميا. يكفي مثلا أن ننظر في الروايات الأجنبية المترجمة إلى العربية لنجد المجازة منها تحتل مرتبة عليا.

إن المبدع والباحث حين يعمل بجد ووعي يتوجه بذلك إلى القارئ. قد يحصل أي منهما على جائزة، وهي نوع من المكافأة المادية التي تبرهن له أنه يستحقها لمجهوداته ومشاركته في تطوير الإبداع أو البحث. لكن المكافأة المادية لوحدها غير كافية بالنسبة للمبدع أو الباحث الحقيقي. إنه يبحث إلى جانبها عن مكافأة أخرى: المكافأة المعنوية التي تأتيه من القارئ.

يمكن للمكافأة المادية أن تعضد المكافأة المعنوية إذا لعبت القراءة المجيزة مسؤوليتها الأخلاقية، ولعبت دور النشر ومؤسسات الإعلام دورها في تثمين العمل المجاز وجعله قيد التداول الواسع والدائم، وإلا فإن الجائزة مكافأة مبتورة.
____________
ناقد وأكاديمي مغربي

المصدر: موقع الجزيرة من هنا

اترك تعليقاً