منوعات

الروائي رشيد الضعيف لـ”العين”: العنف الذي نعيشه لا يحتمل ( الصورة: يوسف بزي)

حوار مع الكاتب حول عمله الجديد “”ألواح””

اعترافات وبوح وإقرار تلخص فحوى كتاب الضعيف

منذ روايته الأولى “المستبد” (1983)، وما تلاها “فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم” و”أهل الظل” و”تقنيات البؤس” و”عزيزي السيد كواباتا” و”ليرنينغ انغليش” وغيرها، رسم رشيد الضعيف مساره الخاص في الرواية اللبنانية، أكد فيها أسلوبه في ترشيق السرد وتطوير اللغة وعصرنتها وانفتاحها.

وبعد سلسلة روايات ابتدأت بـ”تصطفل ميريل ستريب”، بدا فيها أنه يكتب الحيوات العاطفية المضطربة، في زمن استهلاكي وتكنولوجي لاهث، مشوب بفوضى المجتمعات واهتزاز قيمها والتباس العلاقات ومعنى الحب، فشكلت تلك الروايات صدمة لغوية ومضمونية، وسجالاً نقدياً حاداً حولها.. يبدو اليوم أنه بصدد التوقف والتأمل.

هكذا، يأتي كتاب “ألواح” (دار الساقي، بيروت 2016) مستعيداً ذاك الخيال الأول والهموم الأصلية التي ميّزت رواياته الأولى، إضافة إلى كونه كتاباً يتجاوز التصنيف الأدبي نحو نص مفتوح على التداعي والبوح. هنا الروائي هو الراوي وهو “البطل” وهو الموضوع، بل الكتابة نفسها هي موضع المساءلة والمراجعة.

كتاب يبحث فيه رشيد الضعيف عن صلبه الأول، الذي عليه يلمّ شتاته، ويرمم به صوته وصورته.

عن هذا الكتاب كان حوارنا معه:

* في مطلع الكتاب تكشف نفسك ككائن من حيرة وخوف.. الحرب هي التروما المستمرة فيك؟

– عزيزي يوسف، لم أكوّن بعد رأياً في هذا الكتاب. لم يتكوّن لدي بعد خطاباً، كلاماً عن هذا الكتاب. أنا الآن أجيب عن أسئلتك، لأنني لا يمكن أن أرفض لك طلباً. ولذا أعتذر من القارئ عما سيرد من تردد في أجوبتي.

بالنسبة للسؤال، نعم.. لم أخلص من “تروما” الحرب بالتأكيد. أظن أن كيّها باق إلى الأبد. الحرب التي عشناها ليست مجرد تجربة عابرة. المأساة تكمن في أن الحرب تعرّي الإنسان لتظهره على حقيقته. الحرب هي الحقيقة والسلم هو المجاز. هذا “الاكتشاف” لا يمكن نسيانه. لقد شكّلني.

أنا لست شخصاً “جباناً”. وفي حياتي أقدمت على أمور لم يقدم عليها إلا النادرون. ولكن الدعوة إلى الخوف هي دعوة بالمعنى الفلسفي. الخوف هو الذكاء، هو احترام الذات، هو احترام الإنسان الفرد، هو دعوة ضد “القضايا”. شعار الموت من أجل قضية، نحن نسمعه منذ عصر النهضة وربما من أول التاريخ، هو الشعار الذي تمثَّله ملايين الناس وأدى إلى ما أدى إليه من ضحايا. نحن الآن نشهد انمحاء الناس. نشهد اضمحلال العرب وصمود قضاياهم! اختفى العرب لشدة ما قاتلوا وتقاتلوا وبقيت قضاياهم. تضخم هائل في “الشهداء” إلى حد أن “الاستشهاد” لم يعد له قيمة. بهذا المعنى، أدعوا إلى الخوف والذكاء واحترام الحياة. فكثيراً ما يكون أسهل شيء للدفاع عن قضية هو التضحية بالذات، بينما الأمر الصعب هو البناء كل يوم.

* منذ البداية، الكتاب هو “مراجعة” للذاكرة، كأنه “اعتراف” بالمعنى الكاثوليكي؟ هل الدافع لكتابته هو الشعور بالذنب؟ وما هو؟

– هو لا شك “اعتراف”. هو بوح وهو إقرار، لكنه ليس اعترافاً بالمعنى الديني. لا أظن أن الدافع لهذا الكتاب هو شعور بالذنب. إنه تفكيك لقيم نعيشها ونجسّدها: القضية، الأبوة، الأمومة، الحب، القرابة، الحداثة، التقليد، الغربة، الحنين إلى الجذور.. إلخ.

أشعر بالحسرة، بالأسى وبالصدمة من هذا العالم. السياسة أحرقتني. تجربة الحرب جعلتني أكتشف أننا لسنا سوى عملاء تافهين للتاريخ. كنا نظن أنفسنا نبني مجتمعاً جديداً سيحرر فلسطين، وإذ بنا نكتشف أننا في مكان آخر، ندمر بعضنا البعض. التاريخ كائن بهيمي، لا يمكن لأحد أن يفهم اتجاهه أو طبيعته، ولا هو ذاته يعرف نفسه. لذلك، يجب أن نكون ديموقراطيين، لأننا كلنا في العتمة.

* في موازاة نبش دواخلك، وساوسك إذا صح التعبير، الكتابة عن والدتك كأنها انتباه إلى أهم شخصية روائية في حياتك في رواية لم تكتبها؟

– كل كتاب من كتبي هو نبش للداخل. هذا، شكلاً، يعطي الانطباع بالأمر. لكن أيضاً هو انتباه إلى ما نحن عليه من تفكك وفساد ورثناه. أنا أحب والديّ حتى الموت، لكن والديّ لم يكونا “مواطنين”. هما أورثاني ما أنا عليه: الطائفية، الزبائنية السياسية، عدم احترام الأمكنة العامة.. لم يعلمنا أهلنا مثلاً أن الدين هو المساهمة في سعادة المدينة.

ما أفعله في هذا الكتاب هو تظهير ما في الداخل ونشره في الشمس ليطهر.

أما بخصوص الكتابة عن والدتي، فهي موجودة في رواية “ليرنينغ إينغليش” وفي بعض رواياتي الأخرى، ولكن لم أفرد كتاباً عنها. سؤالك نبهني لأمر لم أكن منتبهاً إليه، وهو أن والدتي فعلاً شخصية روائية لم تُكتب بعد. هي في ذاتي، هي شكّلتني، هي التي أسعى لأن أعرفها بالعمق.

لا أريد أن أبدو وكأني على علاقة خاصة بأمي لا تشبه علاقات الآخرين بأمهاتهم. هي علاقة عادية جداً. بهذا المعنى، ما أظهّره من هذه العلاقة هو موقف نقدي من علاقة الناس – الذكور بأمهاتهم. يختزلون الأم إلى الحنان والبراءة والطهر، في حين أنها كائن مركّب، لها خيالها السري الذي لا تستطيع هي نفسها أن تتحكم به. وبهذا المعنى، أمي هي أمهات العالم. ولا أقصد أنها تمثل أمهات العالم ولكنها تشبه عشرات الملايين من أمهات العالم.

* ما من مأساة كبيرة في طفولتك، عدا بتر ساق أخيك، لكنك تكتبها بوصفها تعاسة مطبقة؟

– أنا أكتب عن طفولتي من زاوية اليوم. تربيتنا تحكم قراراتنا. وبهذا المعنى أنا أعيش مأساة اليوم. أي حادثة مأسوية في أي مكان، أشعر كأنها تحدث لي وأعيشها. لذا، الزمن الراهن بقتامته يلقي بألوانه على الماضي حين نتذكره، ونتساءل لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

* تخصص صفحات كثيرة لسرد قصص تعذيب الحيوانات والحشرات في طفولتك، بالتوازي مع كتابتك عن النظافة (الأهم من الجمال). وفي مكان آخر تقول “ولا طهّرني شيء”. ما السبب؟

– حين أتكلم عن تعذيب الحيوانات فكأنني أقف أمام المرآة وأصف ما فيها. ملايين الناس تُسلخ كالسلاحف من منازلها. هذا ما أراه في المرآة التي أقف أمامها. هذا العنف الذي نراه ونعيشه ونتحمله، هذا العنف الذي لا يُطاق. هلا فكرنا، هلا انتبهنا إلى ما يجري؟ خذ مثلاً ما يجري في سوريا، فهذه القرى والمدن موجودة ومستقرة بأهلها منذ ما بعد الفتح الإسلامي، إلى أن سُلخوا اليوم عن بيوتهم.

عموماً، أغلب الكتابات العربية تلقي اللوم على الآخر: الجهل أو الاستعمار و”الأنظمة”.. إلخ، ولكن لا أحد يفتش عن الشيطان الذي فيه. الحقيقة أن الشيطان فينا. عندما أتكلم عن والدتي مثلاً، أحاول أن أخلق مساحة للحوار (حول “الأمومة”). تعالوا نرى ما المشكلة، لنتحاور في مسألة الأمومة والأبوة وكل المسائل الأخرى العميقة الأثر فينا. وهذا لا يكون إلا بالصراحة المطلقة، وبالجرأة على قول الصراحة وتخطي “التابو”.

* في نهاية الكتاب تعود إلى والدك ثم فوراً إلى “الكتابة والعلاج”. هذا إيحاء بصلة قوية بين صورة الوالد وصورتك وحافز تأليف هذا الكتاب تحديداً؟

– (يتردد رشيد الضعيف في الإجابة. يقول بما معناه إن الجواب سيكون في كتاب آخر)

* كأن “ألواح” هو إعلان عن قطع مع سياق في نتاجك الروائي وابتداء لسياق آخر؟

– معك حق. قررت أن أكتب خارج العقلانية. قررت أن أكتب -بمعنى ما– بمنطق الجاحظ والأصفهاني وألف ليلة وليلة. ولكن ما أضفته على هذا المنطق هو أن تكون هذه الحرية بالكتابة لها مبدأ ضابط للكل.

الروائي رشيد الضعيف

المصدر : موقع العين / الرابط من هـــــنــــا

اترك تعليقاً