منوعات

الشعر بين المعرفة والتنطع..

عبد الغني فوزي

تطلع علينا ، من حين لآخر، بعض الصيحات من قبل مسؤولين متحزبين ، ترمي بالشعر والعمل الأدبي للبحر، بجرة لسان غير صقيلة . طبعا الأدب في المجتمعات العربية ، في وضعية لا يحسد عليها . نظرا لمطاردته ومعاندته ، بالأساس من طرف الأحزاب التي لا تصور لها للثقافة عموما ووظيفتها ماعدا الأدلجة والواجهة . والدولة أيضا والجهات الوصية بدون مشروع في هذا الصدد . هذا فضلا عن اختلالات بنيوية ( أمية ، جهل ، فقر…) أدت إلى العزوف عن القراءة . هذا فضلا عن خواء المجتمع المدني الثقافي من الداخل ومسايرته للصخب دون انشغال بالأسئلة الحقيقية للأدب والثقافة . ففي غياب الشروط الملائمة في التداول والاحتضان ، ينتعش مثل هذا الكلام الذي لا سند له في التحليل والتأمل . وهو بذلك مجرد فرقعة في الهواء ، تسعى إلى الاستفزاز وخلط الأوراق ، في عزف على أوتار خفية تعادي الفن والجمال ، لأنهما يربكان التربع المتخشب والساعي إلى إفراغ الإنسان من خصائصة وخصوصيته ، وتحويله إلى إنسان يبلع الحقائق ولا يطرح السؤال . إنسان يساق ويلف على غرار الصناديق التي تمنح القرار.

يغلب ظني ، أن ما يدرس في المدرسة المغربية والعربية هو جزء ضئيل من الشعر أو الفلسفة…لأن الأدب وغيره من الفنون والعلوم الإنسانية ممتد في الإنسان بمختلف صفاته واهتمامه . فهل يمكن تجفيف الدم مما يسري فيه ؟ . وعليه ، فالشعر مرتبط بالكينونة وأسئلتها ، بالإنسان وحضوره كذات في أي نشاط وممارسة . فليعلم الجميع ، أن الأدب لايمكن رفعه وحجبه ، رده وتكبيله.. لأنه ليس عواطف غافلة أو خيالا في واد أو صوتا لا صوت له . وهو ما يؤكد أن الشعر ليس حرفة أو مهنة ، إنه أكبر من ذلك كأسلوب حياة يبنى بشكل شفاف في انتصار للمعنى عوض التشييىء والتعليب . لهذا فرسوخه رسوخ القيم الجوهرية في شرايين الحياة والوجود . لا يمكن استئصاله بضربات عمياء ، تعتبر تقنعا ايديولجيا يحارب الشعر منذ أن ظهر الإنسان . ولكنه دوما كان يخرج معافى متجددا ، بهيا ؛ يجدد اللغة والحياة بإمكانات العقل والخيال . وهو ما يثبت أن قوة الشعر في مائه الذي يقلب الترتيب والتعليق ، بجنوحه للامتداد انفلاتا وجموحا…الشيء الذي يجعل الحياة متعددة في الوسائط التي نحيا بها ، بما فيها الذات . لهذا فانتشار الحمى والهستيريا المغلفة بدعوات ” اللاجدوى ” لا سند لها إلا في ذاك العماء الواحدي الذي يعادي الاختلاف أصلا ، على الرغم من الإدعاء والاحترام الشكلي لقواعد ” اللعب “.

وحين ندرك أن الشعر غير متصالح مع السلط ، بما فيها سلطته كمؤسسة أدبية ـ رمزية ، أمكن لنا أن نقرأ قليلا ، ونتفاعل ، أن نتأمل ونتساءل ، أن ننفض أجسادنا ـ جثثنا من الكلام المندس ـ المعياري والذي يؤصل للبؤس الفكري . إذا حصل شيء من هذا الصنيع ، سنتبادل الأفكار، اعتمادا على التطارح والحجج ، عوض أن ندخل الأدب وغيره في حلبات ، ونتبادل اللمز والغمز المؤكد بالقيء ، بعد أن ضاق الجوف الجاف من المعنى والآفاق . للشعر شأنه ، وحين يتنزل حلمه ؛ سينقلب كل شأن عن شأنه . آنذاك ، فلا شأن لشأن إلا لشأنه .

هل يمكن أن نحيا دون شعر ؟

صعب ولو في ظل التنميط السائد . لهذا ، فالكائن غير مقيم في بنيان ، لا يد له فيه . بل يسري ويسيل كشرايين وتدفقات عبر ذوات تحيا بشكل ممتد في تقاطع مع الآخر كأسئلة أيضا .

لهذا ، فالشعر مؤهل أكثر لا كنصوص فقط ، بل كحياة مشبعة بالمحتمل ، بالدهشة ، بالخيال ،بالجرأة الفاضحة ، بالحقيقة التي لا هيكل لها ولا سند ما عداها في الامتداد . مؤهل ـ بكامل عدته الإشكالية ـ لخوض المعارك بخيوط الاحتمال الرائي ، استنادا على سلالاته الطرية . وفي المقابل يمكن رفع العقيرة في الخطابة للافحام والاستعراض ، لكن في ميدانه العالق بالذاكرة والمشدود للمستحيل ، يصعب ” اللعب ” دون معرفة .

المتحصل أن الشعر ليس في حاجة لكل هذا الهراء ، وكثيرة هي الخرق التي لا تليق به ، لكن سيدفعها بهدوئه المدهش ، ويواصل ….فالشعراء يأتون من الحياة ، ومن السياقات المتشابكة إلى حد التعقيد . وشهادتهم في العصر وعليه ، لا يمكن التغاضي عنها ، لأنها تسعى إلى تجذير قيم النبل والجمال والحرية …وهي مفاهيم قد ينهض عليها الكيان الفردي والجماعي . فهل الشعر ، إذن ، في حاجة إلى كل هذا الهراء المقنع ؟ .

*شاعر وكاتب مغربي

المصدر : هسبريس

اترك تعليقاً