مقالات نقدية

«في فنّ الموشّح»: أعجميّ الصوت عربيّ اللسان / منصف الوهايبي

«الغائب والشاهد في الموشّحات الأندلسيّة»، هو العنوان  الذي وسم به الجامعي التونسي سليم ريدان جملة فصول ومقالات كان نشر بعضها، وشارك بها في ندوات علميّة، ومحاضرات ودروس كان أعدّها لطلبته. ويستأثر بها جميعها، هاجس البحث في خفايا فنّ التوشيح  وكوامنه، وما يتعلّق بقضايا نشأته التي لا تزال تثير ما تثير من الأسئلة الشائكة؛ وخاصّة ما يزعمه بعض المستشرقين الإسبان ـ عن حقّ ـ كما يرجّح الباحث، من أنّ أصل الموشّح في ألحانه، وليس في نصوصه الشعريّة؛ يرجع إلى إرث إسباني سابق للإسلام.

صدّر الباحث كتابه، بشذرتين، واحدة للشابي تعتبر الفنّ شعرا كان أو لحنا أو صورة أو تمثالا، حياة موسيقيّة. وأخرى لمحمود درويش «الشعر سرّنا المعلن»، بخطّ يده. وقد كتبها خصّيصا للباحث ربيع 2000 في زيارته لكلّية الآداب بمنوبة (تونس).
هذا الكتاب هو في تقديري، من الأعمال القليلة الجادّة التي يمكن أن يفيد منها الباحث في فنّ التوشيح الأندلسي، سواء من حيث معجم المصطلحات، أو من حيث الموسيقى والإيقاع. وليس في مقالي هذا، وهو عرض لبعض قضايا التوشيح، ما يسوّغ البحث في نشأة  هذا الفنّ، ولا الاستفاضة في المؤثرات التي آكتنفت وضعه. ونحن نعرف أنّ من القدامى من ذهب إلى أنّ علم العروض وجد قبل الخليل، وأنّ الخليل تأثّر فيه بآداب الأمم الأخرى (العروض الهنديّ السّنسكريتيّ)؛ فما بالنا بالموشّحات التي ظهرت في بيئة  كانت تخالطها عناصر وأمشاج، من مكوّنات عربيّة وغير عربيّة.
وآلخليل ـ على ما يبدو ـ هاله اتّجاه بعض شعراء عصره من المولّدين، إلى نظم الشّعر على أوزان لم يعرفها العرب ولم تسمع عنهم: فوضع علم العروض ليقيم حدّا فاصلا بين أوزان مأثورة وأخرى مهملة مستحدثة. وكان لهذا الحدّ أثره في وضع حدّ آخر بين شعر مأثور وشعر محدث. وشاع تعريف لعلم العروض مغلوط أو هو غير دقيق، فقد أقرّ بعضهم أنّ «العروض علم يعرف به صحيح الشّعر من فاسده». وكان أصوب لو قيل يعرف به صحيح وزن الشّعر من فاسده. ولا يخفى ما بين التّعريفين من فرق بيّن، فربّما صحّ الوزن وفسد الشّعر؛ وربّما فسد الوزن، وصّح الشّعر. ذلك أنّ الوزن قد لا يكون المدخل الأنسب إلى شعريّة النّص أ وبلاغته أو إيقاعه، وأمره من أمر «التّدلال «، أو ما يصنع الدلالة والمعنى.
ولم يكن بالمستغرب أن أدار كبار شعراء العربيّة من القدامى والمعاصرين، قصائدهم على بحور مثل الطّويل والبسيط والكامل والوافر والخفيف. وما نظنّ ذلك إلاّ لعلّة إيقاعيّة، فهذه البحور ذات الإيقاع الأصيل أو التّفعيلات الرّئيسة، كما يسمّيها المستشرق فايل،هي السّبب في ثبات النّغم الصّاعد أو «جوهر الإيقاع» أي الوتد المجموع الذي لا يصيبه زحاف، ولا تصيبه العلّة إلاّ في عروضه أو ضربه أي في موضع القافية. وهذه ذات إيقاع خاصّ بها يختلف عن جوهر الإيقاع الصّاعد في القصيدة. ومن الملاحظ أنّ أكثر البحور دورانا في الشّعر القديم، هي تلك التي تتكوّن من تفعيلتين، وفيها يأتي جوهر الإيقاع بعد مقطع واحد كالطّويل، ليعلو بالنّغم في أوّل البيت ويستمرّ صاعدا حتّى نهايته؛ أو كالبسيط بتفعيلاته القافزة خافتة الوقع. أمّا البحور قليلة الدّوران فتتميّز بإيقاعها الهابط أي الوتد المفروق المكوّن من مقطع طويل منبور يتلوه مقطع قصير. ولعلّ هذا ممّا زهّدهم فيها.
حتى إذا انتقلنا إلى الموشّح، استوقفتنا معضلة أوزانه. وكان ابن سناء الملك (القرن 12 م) أوّل من طرحها. ثمّ تلقّفها واستدرك عليه، المستشرق الألماني هارتمان (القرن 19 م)، فالإسباني كورينطي، فسيّد غازي، فزميلنا سليم ريدان الذي يقدّم أطروحة «جديدة» أساسها رهان معرفي منه على ضرورة الربط بين الشعر والموسيقى. ومسوّغات  طرحه، أنّ المصطلح النقدي المخصوص بالموشّح، يحفّه غموض غير يسير؛ بسبب انتمائه إلى نظريّة عمود الشعر، وعروض الخليل؛ إي إلى مجال غير موسيقي. والموشّح ـ باستثناء الموشّح الشعري الذي هو أقرب إلى القصيد منه إلى الأغنية ــــ «كان ثورة صامتة على الشعر» بعبارة الباحث، ولا ينتظمه أيّ وزن من أوزان العرب المعروفة، وحتى المهملة. وعروضه ـــ إذا جوّزنا لأنفسنا هذا المصطلح ـــ ألحان موسيقيّة مصطفاة صاغتها ثقافات البحر الأبيض المتوسّط، وتحديدا ثقافة الأندلس التي كانت مثاقفة تشكّلت في سياق تاريخي مخصوص؛ إذ لم يواجه الإسلام نظما فكريّة راسخة كانت لها سطوتها، مثل فلسفة اليونان وعلومها، أو آداب فارس وحكمة الهند. وإنّما وجد المسلمون كما يقول موريس لمبار، رواسب من حضارات وثقافات كانت تشكّل « نمط حياة» أو «أسلوب عيش»، لها أنساقها المعرفيّة لا شكّ. بيْد أنّها لم تشكّل عائقا يذكر في مجال الإبداع الفنّي، لارتباطه باليومي والمعيش الحيّ؛ باستثاء موقفين: موقف شيوخ الأدب والنقد، وموقف ابن رشد الحفيد. أمّا الشيوخ من أمثال ابن عبد ربّه (ت. 328 ه) صاحب العقد الفريد ـــ وهو وشّاح ـــ فقد سكت عن هذا الفنّ، ونحا منحاه حبيب الحميري (ت. 422 ه) صاحب « البديع في وصف الربيع»، وكذا الفتح بن خاقان(ت. 528 ه) في «القلائد» و«المطمح». بل إنّ ابن بسّام صاحب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، لا يخفي إعجابه بالموشّحات التي هي «أوزان كَثرَ استعمال أهل الأندلس لها في الغزل والنسيب، تثشقّ على سماعها مصونات الجيوب؛ بل القلوب.» ولكنّه يعتبر أكثرها «على غير أعاريض أشعار العرب»، ويقول عن عبادة بن ماء السماء إنّه «اشتهر بها اشتهارا غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته». وأمّا أبو القاسم المواعيني (ت. 564 ه) في «ريحان الألباب وريعان الشباب» (مخطوط تمثّل به العلاّمة إحسان عبّاس)؛ فقد ساق موشّحا لابن القزّاز، وأشاد بإحكام نسجه وإتقان نظمه، وتضميناته وخرجاته؛ ثمّ استدرك بأنّ هذا ليس من قصده، «وإنّما ذكرنا منها هذه النكتة لكونها مسندة من تلقاء بعض شيوخنا…» ونحن لا نشاطر سليم ريدان في تعقيبه بأنّ المقصود بـ»النكتة» الهزل. وواضح من سياق الكلام أنّ المواعيني يحمل لفظة النكتة على الطرفة والملْحة، والفكرة اللطيفة التي يكون لها وقع في النفس، أو تلك التي لا يُتوصّل إليها إلاّ بتدبّر ورويّة. وممّا يعزّز من وجاهة هذا الطرح، أنّه حلّل المكوّنات الجماليّة في الموشّح؛ بكثير من الدقّة والبراعة. ولكنّه مثل المراكشي (ت. القرن السابع ه) يرى أنّ «العادة لم تجرِ بإيراد الموشّحات في الكتب المجلّدة المخلّدة».
أمّا موقف ابن رشد (ت. 595 ه) فجاء مقتضبا على دقّته، في سياق كتابه» تلخيص فنّ الشعر لأرسطو» حيث ذكر أنّ المحاكاة في الأقاويل الشعريّة تكون «من قبل النغم، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه». وأوضح أنّ كلّا منها يمكن أن يوجد مفردا عن الآخر، كالنغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ». وقد تجتمع  هذه الثلاثة بأسرها مثلما يوجد عندنا في النوع الذي يُسمّى الأزجال والموشّحات، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة». ويضيف أنّ «الأشعار الطبيعيّة» هي ما جمعت الأمور الثلاثة، وأنّ أشعار العرب»فيها لحن. وإنّما هي إمّا الوزن فقط، وإمّا الوزن والمحاكاة معا فيها.» ونقدّر مثل الباحث أنّ موقف ابن رشد مغاير لموقف شيوخ الأندلس المحافظين. ذلك أنّ غايته هي كما يقول «تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من القوانين الكليّة المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر، إذ كثير ممّا فيه؛ هي قوانين خاصّة بأشعارهم». وهذه الموشّحات والأزجال ـــ وابن رشد لا يميّز بينهما ــ تشترك من حيث المحاكاة والوزن واللحن، مع بعض أشعار اليونان كالتراجيديا والديثرمبي.
إنّ ابن رشد على ما نرجّح ـ وهذا ما لم يفصّل فيه سليم ريدان القول ــ يشترك مع ابن سينا في أنّ عماد الشعر الوزن والتخييل. وهو يميّز بين القصص والشعر. يقول: «والمحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من فعل الشاعر؛ وهي التي تُسمّى أمثالا وقصصا مثل ما في كتاب «كليلة ودمنة»؛ ولكنّ الشاعر إنّما يتكلّم في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود…». ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم طرافة موقفه من الموشّحات والأزجال. فهو لا يهوّن من شأنها، لأنّها مثل الشعر لا يحصل مقصودها من التخييل إلاّ بالوزن. و»لأنّ صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال». على أنّه يرى أنّ اللحن من جوهر الموشّح والزجل، وليس لاحقا عليه، كما هو الشأن في القصيدة. وهذا يؤكّده ابن سناء الملك الذي أراد أن يكون «خليل» زمانه؛ فيقيم للموشّحات عروضا «فعزّ ذلك، وأعوز لخروجها عن الحصر.. وما لها عروض إلاّ التلحين|.
وربّما كان اللحن أعجميّا، فيما اللسان عربيّ مبين، وإن خالطته لاتينيّة العصور الوسطى في الخرجة.

«في فنّ الموشّح»: أعجميّ الصوت عربيّ اللسان

المصدر : موقع القدس من هنا

اترك تعليقاً