منوعات

“للكريساج” فوائده لذلك نهش عليه و لا نحاربه / بقلم : حسن بوعجب

    رغم كل ما للدولة من “بوليس” و”مخازنية” واستخبارات نرى شوارعا في كثير من مدننا تعج بالمجرمين واللصوص الذين يباشرون مهامهم في واضحة النهار، كأنهم باعة متجولون أو متسولون، ليتساءل الفرد هنا: لماذا لا يتم التدخل الحازم لتعقيم مدننا زنقة زنقة من المجرمين، ولماذا يتم اعتقالهم لساعات أو لأشهر ثم يطلق سراحهم؟ و لماذا نرى في بعض الأحيان رجال الأمن وهم على مقربة من عملية “كريساج” لكن لا يتدخلون، وحتى إن تدخلوا يتدخلون بتثاقل مستفز، وكأنهم يعطون ترخيصا ضمنيا للمجرمين بمواصلة أعمالهم، إلى درجة أن هناك من قد يذهب به الشك إلى الاعتقاد أن أمين المجرمين في كل حي قد وقع مذكرة تفاهم مع الأمنيين تنص على اقتسام “الوزيعة” وتبادل الخدمات؟ هل البوليس عاجز ويخاف كل هؤلاء المجرمين أم أن الأمر متعلق بسياسة مخزنية ممنهجة تقوم على الاعتدال في محاربة الظاهرة تفاديا لأي احتقان اجتماعي أو سياسي ؟

      نعم يمكن اعتبار “الكريساج” مهنة غير منظمة يتم التغاضي عنها في كثير من الأحيان مثلما يتم التغاضي عن أي مهنة أخرى غير مرخص لها ، لأنها ببساطة تساهم في توفير لقمة العيش لفئات ضالة من المجتمع وتوفر بذلك على الدولة مسؤولية تشغيل هؤلاء المجرمين أو على الأقل تقديم العون لهم للانتقال إلى عيش كريم ، ثم أن التساهل مع الظاهرة يوفر بلا شك على سجون البلد متطلبات إيواء وتغذية هؤلاء ، حيث أن المقاربة الأمنية الحازمة ستكون نتيجتها بالتأكيد أفواج وأفواج من المعتقلين ، كما يمكن أن تكون نتيجتها أيضا تحول اللصوص إلى محتجين ومتظاهرين مطالبين بحقوقهم الاجتماعية .
“للكريساج” أسبابه المختلفة، هناك من يختاره كحرفة معفية بالطبع من الترخيص والضريبة وحتى من رأس المال الذي لا يكلف إلا أدوات حادة بسيطة ، وذلك عوض أن يختار أن يكون عاملا في البناء أو بائعا متجولا أو متسولا … ، وهناك من يقول أنه يضطر إليه اضطرارا إذ تفشل جميع محاولاته الحلال في العيش … ، لكن في كل الأحوال تبقى الدولة مسؤولة عن الوضع ، وتدخلها الأمني الرادع يبقى مطلوبا بإلحاح ليحصل المواطن على حقه الطبيعي في شوارع آمنة ، فالأمر هنا يتعلق بحق و ليس بتكرم من الدولة، لأن هناك ميزانيات ضخمة من أموال الشعب ترصد لقطاع الأمن كل سنة، ولأن هناك موارد بشرية ضخمة أصبحت شبه عاطلة عن أعمالها في ثكناتها و تتقاضى أجورا باردة في نهاية الشهر من خزينة الشعب دون أن يقوموا في الغالب بما يلزم لحفظ أمن أبنائه وبناته.
صحيح أن اعتقال كل المجرمين واللصوص يكلف الدولة مصاريف كثيرة لسجنهم، لكن ذلك لا يعني أنها معفية في التفكير في حلول ناجعة للحد من الظاهرة، إذ بالإمكان مثلا أن نحل المشكل بطريقة سهلة، بل ومربحة بالنسبة للمجتمع وهي : ” الحكم على المجرمين بالأشغال الشاقة في الأوراش الوطنية الكبرى ” عوض الاقتصار على تكديسهم في السجون لينعموا فيها بالراحة و الطعام قبل أن يواصلوا مسيرتهم في الإجرام بعد إطلاق سراحهم … .
إن من يستحق مصاريف الإيواء والطعام هم أولئك المتسولون والمتشردون الذي يقطعون قلوبنا ألما، إذ نتحسر يوميا على أفراد يتمددون أمامنا في الشارع في حالة مزرية تنغص علينا كل مشاعرنا الايجابية، لتجعلنا نتراجع عن أي ابتسامة تشق طريقها لوجهنا في هذا البلد المكلوم، ونتساءل في تألم مستمر: لماذا ينعم المجرمون في السجن بالإيواء والطعام ويبقى متشردون في عمر أجدادنا وجداتنا دون أكل أو شرب ؟ أي دولة هذه إن لم تنزل بكل جيشها لجمع كل هؤلاء وتوفير الرعاية لهم ؟ أي دولة هذه إن لم تنزل بكل قوات أمنها لتعقم مدننا زنقة زنقة من المجرمين و تدفعم إلى التفكير في الاشتغال و لو بربع أجرة عوض أن يسارعوا إلى الارتماء في عالم الجريمة ؟؟
و المؤسف حقا أكثر من هذا التهاون هو أن ظاهرة الكريساج هذه صارت تعد حسب بعض التصورات السلطوية ورقة تفاوضية ضمنية من أجل تحقيق فائدة استراتيجية أخرى ألا وهي إحساس المواطنين بحاجتهم الدائمة و الملحة إلى تدخل الدولة، إلى درجة أنه قد يتم تحويلها في بعض الحالات إلى أداة لمساومتهم على حقوقهم المشروعة، أي إما أن يقبلوا بغلاء الفواتير والمعيشة وبكل تفاصيل أوضاعهم الاجتماعية المزرية أو يتركوا عرضة للمجرمين إن هم فكروا في الاحتجاج والخروج إلى الشارع .
و هكذا يصبح المواطن البسيط يطلب سلة الأمن فقط وينسى جانبا اشتهاء الفاكهة أو التطلع إلى تحقيق مطالبه الاقتصادية و الاجتماعية الضرورية، أي عوض أن نتحدث في وطن اليوم مثلا “زيرو شوماج ” صرنا قانعين مقتصرين فقط على رفع شعار” زيرو كريساج” .
عموما يمكن القول أن “للكريساج” حسب التصورات المغرضة المغلوطة فوائده الإستراتيجية والنفسية، لذلك نرى الدولة تهش عليه ولا تحاربه محاربة حقيقية، فكما يعرف الجميع لمخزننا ولقواتنا الأمنية قوة ضارية، ولا يعجزهما أبدا تطهير مدننا من الإجرام العلني حيا حيا و زنقة زنقة .

اترك تعليقاً