منوعات

شيء من اللغة: الكتابة والبناء للمجهول

هادي حسن حمودي

FEBRUARY 18, 2016

بناء الفعل للمجهول ليس عملا اعتباطيا، بل له وظائف دلالية متنوعة. نستعرض منها هنا واحدة، فحسب، من النظر في الفعل «كتب». هذا الفعل من الجذر اللغوي «كـ، ت، ب»: الدالّ على ضمّ شيء إلى شيء وضمّهما معا كما يُضمّ أديمٍ إلى أديم بالخياطة، أي خياطة جلد إلى جلد آخر، أو خياطة أيّ شيئين مع بعضهما بعضا.
ومنه قول العرب: «كتّبتُ النّاقةَ تكتيبا» إذا صَرَرْتها، أي شددتَها. والنّاقة إذا ظَئرتْ، أي حنّت، وأريد منها أن ترضع غير ولدها «كُتِبَ» أنفُها بخيط لئلاّ تَشمّ رائحة الصّغير الذي يُراد منها أن تَرْأمَه، من أجل أن تحنّ عليه فترضعه متوهمة أنه ولدها.
ومن ذلك «الكتيبة» وهي الخيل يُضَمُّ بعضُها إلى بعض، فإن لم يُجمع بعضُها إلى بعض ولم يُضمّ بعضها إلى بعض فليست بكتيبة. ومنه أيضا: اكْتَتَبْتُ القِربة: إذا سددتها بغطائها.
ثمّ يتطوّر المعني إلى الكتابة المعروفة – وهي النَّظْمُ بالخطّ – نتيجة حاجات الإنسان في تطوّره ونموّ فكره واتّساع متطلّبات حياته.
أمّا «كُتِبَ» فيتضمّن معنى الجمع والضّمّ على ما هو الأصل في اللّفظ، واستعمله التنزيل العزيز في مواضع الشّدّة والمعاناة فيما «كُتِبَ» على الناس. فالفعل «كُتِبَ» يعرف نحويا بالفعل المبني للمجهول، أي إن فاعله مجهول، أو بحكم المجهول. ولكن الفعل «كُتبَ» جاء في التنزيل العزيز مع علم القارئ أن الله، تعالى، هو الفاعل، في جميع مواضع مجيئه. وهذه المواضع كلها في الأمور الشديدة على الناس، أو المتعسرة عليهم، أو التي لا يرغبون بها. وذكر القرآن الأشياء التي كُتبت على الناس، وهي:
أ- القصاص في القتلَى «كُتب عليكم القصاص في القتلى» (البقرة 178) فليس القصاص بالأمر السّهل، لا على مَن يُنَفّذه ولا على الـمُقْتَصّ منه.
ب- الوصيّة «البقرة 180». ولا شكّ في أنّ الوصيّة تذكيرٌ بالموت، وهو تذكير صعبٌ على كثير من النّاس.
ج- الصّيام «كُتب عليكم الصيام» (البقرة 183). والشّدّة في الصّيام معروفة، من جوع وعطش وامتناع عن كثير من المباحات في غير أوقات الصّيام.
د- القتال «كُتِبَ عليكمُ القتالُ وهو كُرْه لكم» (البقرة 216)، ولا جدال في شدّة القتال ونفور النّاس منه. فهو كُرْهٌ لهم لِما فيه من الشّدّة الواضحة التي لا تحتاج إلى بُرهان.
هـ- إعطاء حقوق يتامى النّساء سواء ميراثهن أم مهورهنّ (النّساء 127). ومن المعلوم أنّ كثيرا من النّاس يقودهم جشعهم وطمعهم إلى مصادرة حقوقهنّ. فأداء حقوق الآخرين، بمن فيهم يتامى النساء، فيه شدّة مبعثها الطمع والجشع المفضيان إلى الظلم. وهما يَنالان مَن لم يستطع أن يزكّي نفسه ويسمو بها فوقهما.
و- النَّيل من الأعداء والسَّير إليهم (التّوبة 120) لما فيه من تحمّل الجوع والعطش في أداء ذلك العمل.
ومن هذه الشواهد نصل إلى أنّ الفعل المبنِي للمجهول «كُتب» جاء في التنزيل العزيز في المواضيع التي فيها شدّة أكثر من شدة المواضيع التي ورد فيها الفعل «كتبَ» كما في: «فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» (الأنعام 54). فالأصل في الفعل البناء للمعلوم، إلا إذا جهلنا الفاعل جهلا حقيقيا. أما إذا عرفنا الفاعل فليس من الفصاحة العالية أن نبني الفعل للمجهول إلا لغرض بياني محدد.
ومن ذلك ما نقرأ أحيانا: «وقيل كذا..» مع علم الكاتب بالقائل، ولكنه لا يريد ذكره ولا يريد تعريف القارئ به استهانة بالقائل أحيانا، أو بالمقول له، أو بالقول نفسه. ولولا ذلك لقرأنا «قال فلان». فمعرفة وظيفة البناء للمجهول في الجملة العربية يرفع النص إلى المستوى الأعلى فصاحة في أساليب التعبير اللغوي. كتب اللهُ لكم ولنا مزيد العلم بهذه اللغة الجميلة.

هادي حسن حمودي: باحث أكاديمي عراقي – لندن

المصدر : موقع القدس العربي من هــــنــــا

اترك تعليقاً