مقالات نقدية

ميزان الرواية

سعيد يقطين

عندما بدأت أراود كتابة الشعر في مراهقتي، كان عليّ التعرف على كتاب «ميزان الذهب في صناعة شعر العرب» لأحمد الهاشمي، وقراءته بدقة لمعرفة أسرار وضرورات الوزن لكتابة قصيدة تخضع لقوانين وضوابط إيقاعية صارمة لا يجوز الخروج عليها. لكن ما كان يثيرني في الكتاب هو عنوانه: «ميزان الذهب». وتبين لي بعد التأمل، ومعاودة التفكير في العبارة، أن القول الشعري ذهب، ولا بد له من ميزان دقيق يزن أي حركة أو سكون بشكل متناه لا مجال فيه للغلط أو التجاوز، لأن ذلك سيكون كارثيا بشكل ملحوظ.
بعد ذلك تعرفت على كتب أخرى قديمة تصف الممارسة الكلامية بالذهب. لقد سمى ابن رشيق أحد كتبه بـ»قُراضة الذهب في نقد أشعار العرب»، ولابن التائب كتاب يشترك مع عنوان كتاب ابن رشيق سماه: «قُراضة الذهب في علمي النحو والأدب». وتتبع بعض عناوين الكتب العربية يبين لنا ذلك بجلاء. لذلك لم أتعجب حين كان العرب يقارنون الناقد بالصيرفي الذي يميز بين صحيح الدينار وزائفه، ويصفون الكلام بالشعري بالجواهر. ولقد جمع ابن عبد ربه عيون الكلام العربي في كتاب سماه: «العقد الفريد» الذي وزع فصوله وأبوابه على أسماء مختلف الجواهر الثمينة.
هذه القيمة الخاصة التي يوصف بها الكلام الإبداعي دليل على خصوصيته وتميزه عن الكلام الطبيعي. ولعله لهذا السبب نجد في البلاغة العربية وغيرها اهتماما خاصا بتمييز أنواع الكلام، وما يمكن أن يشوبه من وحشي وحشو وإسهاب أو إطناب حين لا يوظف كل ذلك بشكل مضبوط ودقيق. كما نجد مثلا كونديرا يتحدث عن الخفة والثقل…
لا شك أن للرواية ميزانا يمكن أن توزن به قيمتها السردية أو الخطابية. ويبدو لنا ذلك في مراسلات الروائيين الكبار، وفي مقدمات أعمالهم، أو الشذرات النقدية التي دبجوها، وهم يتحدثون عن رواياتهم، أو من خلال كتاباتهم النقدية التأملية. هل أذكر هنا فلوبير، أو بروست، أو هنري جيمس الذي صنف «فن الرواية»، أو كتاب الناقد بيرسي لوبوك حول «صنعة الرواية» وكثيرة هي الكتب الأجنبية التي تتناول الرواية بصفتها «صناعة»
( Craft)، أو فنا (Art )، تماما كما اعتبر العرب الكتابة، بصفة عامة، صناعة أو فنا .لقد كرس العسكري كتابا للحديث عن «الصناعتين» (الشعر والنثر). حين نعتبر الإبداع الفني، سواء كان بالكلمة أو غيرها، فنا أو صناعة فلا بد للمبدع أن يكون ملما بقواعد الفن وأسرار الصناعة. ومن هنا تأتي عبارة «الميزان» الذي يمكن أن توزن به تلك الصناعة، لتأخذ كامل أبعادها في الدلالة على الإتقان والدقة في الإنجاز. حين أصدر إليوت رائعته «الأرض اليباب»، أهداها إلى أستاذه عزرا باوند، منوها بصنعته، بقوله: «إلى الصانع الأمهر: عزرا باوند».
يعتبر الكثيرون، اليوم، الرواية العربية «ديوان العرب». ولعل السؤال الذي يمكن أن نطرحه على هذا القول هو: ما هو «ميزان الرواية» حين نعتبرها ديوانا جديدا للعرب؟ وهل نعتبرها فعلا صناعة، لا بد لها من قواعد خاصة، وأنواع محددة، وطرائق دقيقة ترتهن إليها؟ أم نتركها حرة طليقة، يكتبها كل من يمتلك «قصة»، ونعتبر كل الناس روائيين، على اعتبار أن لكل منهم قصة، أو قصصا يمكن أن يرويها؟ فلا نفرق، تبعا لذلك، بين خبر ـ قصة في الصفحة الأولى في جريدة سيارة، ورواية قضى الكاتب زمنا طويلا في «صياغة» عوالمها. وحين ننُص على «الصياغة»، نبغي القياس على عمل «الصائغ» في إتقان صنعته وحذقه في «إنتاجها». ولعل كلمة «الإنتاج» الأدبي، كما بلورها بيير ماشيري لها الدلالة العميقة نفسها لكلمة الصياغة والصناعة. إنه سؤال الصنعة والصناعة والفن. وحين نفرط في تجاهل هذا السؤال، كما هو السائد لدينا حاليا، نقادا وروائيين، نمعن في إلغاء البعد الفني للرواية، ونحولها إلى قول لا يختلف عن الأقوال التي يزخر بها عالمنا، وقد صارت «حرية التعبير» متاحة للجميع، كما تثبت ذلك المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. لست ضد أن يكتب أي كان سردا. كما أنني لست ضد أن نكتب دراسات عن مثل هذه النصوص السردية التي بدأت تنتشر بسبب الشروط الجديدة، بل إنني أحث الكثيرين ممن لهم «قصة» مميزة عن ذواتهم أو تجربتهم في الحياة أو العمل على كتابتها. لكن سرد الحياة، أو السرد الطبيعي، كما تسميه مونيكا فلوديرنيك، وهي تسعى لإقامة «سرديات طبيعية» تبحث في السرد اليومي والشفاهي، شيئا آخر، يختلف عن التقليد الفني الذي أسسته الرواية في تاريخها.
كتابة الرواية فن وصنعة. وكأي فن أو صنعة لا بد من أن يتشبع ممارسها ليس فقط بقراءة الروايات، ولكن، أيضا، بقواعدها وضوابطها وتقنياتها، وأن يطور موهبته لتصقل بالمعرفة الروائية. ولعل أولى الأشياء التي يمكن أن يعنى بها الروائي ويتقنها جيدا هي اللغة.. إنها المدخل الأساس إلى الصنعة. عندما نهمل التفكير في، والدفاع عن «ميزان الرواية»، وعن الرواية باعتبارها فنا وصناعة، نكون نكرس «ديوانا» رديئا للعرب، لا يختلف عن رداءة الزمن العربي؟

الكاتب المغربي : سعيد يقطين

المصدر : موقع القدس العربي من هنا

اترك تعليقاً