الفكر الحر

” القراءة مدخل للتحرر“

بقلم : ذ.إبراهيم عزيزي

القراءة مفهوم واسع يختزن دلالات كثيرة ومتنوعة، من شأن إدراكها واستيعابها أن يغير رؤيتنا إلى ذواتنا وما حولنا، وأن يعيد تشكيل خريطة وعينا على أسس متينة وقواعد قويمة. لذلك سنفتتح هذا المقال بالكشف عن دلالات هذا المفهوم وأبعاده.

بتتبعنا للمادة (قرأ) في “لسان العرب لابن منظور” نجد معانيها تدور على الجمع، فقرأت القرآن، بمعنى لفظت به مجموعا، وسمي القرآن قرآنا، لأنه يجمع السور والقصص والأمر والنهي… (1)

وبناء على هذه الدلالة اللغوية نفهم أن القراءة عملية جمع لأجزاء متفرقة، وتحويلها إلى ملفوظ واحد، عبر مجموعة من المراحل، واعتمادا على مجموعة من الوسائل، في مقدمتها حاسة البصر التي تلتقط الحروف والكلمات والجمل، والجهاز العصبي الذي ينقلها كرسائل إلى الدماغ.

أما التعريف الاصطلاحي للقراءة فلا يخرج عن كونه امتدادا للتعريف اللغوي، إذ القراءة في أبسط تعاريفها هي “عمليةمعرفية تقوم على تفكيك رموز تسمى حروفا لتكوين معنى والوصول إلى مرحلة الفهم والإدراك”(2)، أي تتبع الرموز اللغوية وتحويلها إلى دلالات ومعان.

لكن هذا التعريف الاصطلاحي للقراءة يبدو تقليديا وناقصا، لأنه يقصر القراءة على الحروف والرموز اللغوية دون غيرها، في حين إن القراءة أوسع من ذلك دلالة، لأن كل ما  يمكن أن يكون دالا في هذا الكون لغويا كان أو غير لغوي قابل للقراءة والكشف عن دلالاته. ونجد لهذا التفسير مبررات عدة، في مقدمتها علم السيمياء الذي يوسع مفهوم العلامة ليشمل الرموز غير اللغوية والإيماءات. وكذا تصور الجاحظ الذي يحصر العلامات الدالة في خمسة أنواع هي : اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال(3). إلى جانب وجود آية قرآنية تدعمه وتزكيه، وهي أول آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم : {اقرأ باسم ربك الذي خلق}[سورة العلق]، والتي تضمنت أمرا صريحا بالقراءة، لكن فعل القراءة فيها لم يتضمن مفعولا به رغم كونه متعديا، وفي هذا دلالة واضحة على إطلاق فعل القراءة وعدم تخصيصه. فالقراءة عملية شاملة لكل مقروء كيف ما كان. كما أن تأمل صفات حروف كلمة )قرأ( يكشف دلالة أخرى مهمة، وهي أن هذه الحروف جهرية كلها وتخرج من الأعماق، إضافة إلى خاصية الشدة والاستعلاء في بعضها. وهذا ما يجعل القراءة فعلا عميقا يستتوجب طاقة أعمق.

كانت تلك أهم دلالات القراءة لغة واصطلاحا، فكيف تكون القراءة مدخلا للتحرر ؟

التحرر عادة هو الفكاك من القيود والتخلص من الاستعباد. والقيود التي تكبل الإنسان لا تعدو أن تكون ذاتية أو خارجية، إلا ما هو ذاتي فيها أشد خطرا وأعظم أثرا، نظرا للصوقه بالذات وشدة ارتباطه بها، مما يصعّب عملية إدراكه والتخلص منه. ومن أبرز قيود الذات الآسرة لها : الوهم والجهل والإيديولوجيا. فقد نبني أحيانا مجموعة من الأوهام عن أنفسنا وعن الآخرين وعن العالم من حولنا، ونظن أنها حقائق ومعارف يقينية لا تقبل النقد ولا تحتمل الشك، كما أنه قد تغيب عنا مجموعة من المعارف والتصورات والأفكار بخصوص قضايا معينة أو أفكار أشخاص معينين، فنصدر بناء على جهلنا أحكاما مجحفة تنافي الحقيقة، بل قد تذهب بنا أنفسنا حد التطرف والتعصب حينما نحتكم إلى ما نؤمن به فقط من أفكار في مقاربة فكر الآخر، فنحاكمه انطلاقا من زاويتنا المحدودة، دون ان نمنح أنفسنا فرصة فهم الآخر والقراءة له والإنصات إليه. كل هذه القيود الذاتية التي تغذي التعصب والتطرف وتصنعه، تستطيع القراءة الواعية أن تزيلها وتبددها، عبر فتحها لنا المجال لإعادة اكتشاف حقيقة ذواتنا وأفكارنا النسبية القابلة للتخطئة باستمرار، وكذا أفكار الآخر وتصوراته من مصادرها الأصلية، فتتسع دائرة الرؤية لدينا، ونكون حينها جديرين بالتقييم الموضوعي للأفكار وقبول الاختلاف بناء على قاعدة متينة وقويمة.

أما القيود الخارجية للذات فلا تمثل شيئا إذا استطاع الإنسان أن يتخلص من قيوده الذاتية، فالقيود الخارجية هي التقييم الذي يسيّجنا به الآخر، والمعرفة التي يصنعها عنا وحولنا، ويحاول توجيهنا بناء عليها. ويحضرني في هذا السياق تصور ميشال فوكو الذي يرى في المعرفة وسيلة من وسائل القمع والتسلط على الإنسان(4)، وهو الشعار نفسه الذي رفعه الاحتلال الفرنسي قبل دخوله إلى المغرب :”المعرفة أساس السلطة”، فجند جيشا من الباحثين لسبر أغوار المجتمع المغربي قصد التحكم فيه. لكن القراءة تستطيع أن تمنحنا معرفة حقيقية بهذا الآخر كيفما كان نوعه، وبذواتنا أيضا، فنكون بذلك قد امتلكنا معرفة أو سلطة موازية لسلطته ومعرفته، فنتحرر حينها من قيوده.

ختاما إن إدمان القراءة مدخل أساس لتحرر الإنسان من الوهم والجهل والتعصب، والانفتاح على آفاق معرفية رحبة، تكسب الإنسان رؤية شمولية نحو الذات والآخرين والعالم، وتجعله جديرا بتمثل ثقافة الاختلاف.  

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

1ـ لسان العرب : لابن منظور، مادة قرأ.

2ـ موسوعة ويكيبيديا.

3ـ البيان والتبيين : لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

4ـ هم الحقيقة : ميشال فوكو.

المصدر : هبة بريس

 

اترك تعليقاً