مقالات نقدية

كونديرا ضد هايدغر: سمو الشعر أم الرواية؟

يبدو أنّ تلك المعركة القديمة بين الشعر والفلسفة، التي تحدث عنها أفلاطون، بإسهاب في الكتاب العاشر من “الجمهورية”، قد آلت مع بعض رموز الفلسفة المعاصرة إلى الشعر، بعد أن اعتقدت “محبة الحكمة” أنّها أزاحته عن عرشه وأبعدته تمامًا من أفقها وقاومت إغراءه وسحره، كما يقاوم الحبيب حبيبته الخائنة، انتصارًا للفضيلة والعدالة والعقل والحقيقة. فقد شهد القرنان الماضيان عودةً قويةً للشعر ضمن اهتمامات الفلاسفة، ليس بغية البحث عن مبادئ مفترضة للخطاب الشعري أو عن قيمة الجمال الثاوية فيه أو من أجل المساهمة في كتابة تاريخ فلسفي لفن الشعر، وإنّما من أجل الإنصات للشعراء والتعلم منهم[1]، كما هو شأن مقاربة مارتن هايدغر لنصوص هولدرلين وشعراء آخرين، والتي جعلته يقر بسمو الشعر قياسًا إلى باقي أشكال التعبير الإنسانية الأخرى، بما في ذلك الفلسفة…

بيد أنّ للروائي ميلان كونديرا رأي مغاير، حيث يؤمن بسمو الرواية ومركزيتها، باعتبارها الشكل الأدبي النموذجي قياسًا إلى باقي الأشكال التعبيرية الأخرى. ويعتبر في ما يشبه الرد على هايدغر، أنّه إذا كان تاريخ الفلسفة قد قام على نسيان كينونة الإنسان، فإنّ الرواية استطاعت أن تسبر أغوار هذا الكائن المنسي، وأن تكتشف بطريقتها وبمنطقها الخاصين، مختلف جوانب كينونته[2]. صحيح أنّ كونديرا لا يحط من قيمة الشعر، لكن كونه يعلي كثيرًا من شأن الرواية، لدرجة اعتبارها شكلاً تعبيريًّا استثنائيًّا، يعني ضمنيًّا، إزاحة الشعر من ذلك المرقى الخاص، الذي يكاد يبلغ فيه منزلة النبوة مع هولدرلين وهايدغر.

فكيف يتصور هايدغر سمو الشعر؟ وعلى أي أساس يقوم سمو الرواية عند كونديرا؟

مارتن هايدغر وسمو الشعر

تندرج قراءة هايدغر لنصوص كبار الشعراء الألمان، ضمن حوار الفكر مع الشعر، غير أنّ الحوار الذي يقصده صاحب “الكينونة والزمان”، لا يتأسس على معايير المقاربة النقدية للأدب ومقولاتها، كما تبلورت في سياق الآداب والعلوم الإنسانية، وإنّما هو على العكس، حوار ينفلت بخصوصيته من أي نقد أدبي، فهو حوار غير قابل للبرهنة[3]، بالمعنى الوضعي للكلمة. فأهم ما يميز “قراءة” هايدغر للنص الشعري هو الابتعاد عن كل منطق إسقاطي، يفرض على النص أطرًا ومحددات قبلية، وبدلاً منه الاقتراب من روح النص والإنصات لنبضه، وإفساح الفرصة له لينكشف. فالتحدي الكبير الذي يواجهه كل تأويل مفترض للنص الشعري، في نظر هايدغر، هو أن يتوارى خلف حضوره الباذخ والخالص. وبعبارة استعارية، “أن يصير أشبه بتساقط ندف الثلج فوق الجرس”. وليس غريبًا والأمر كذلك، أن يعتبر غادامر بأنّ الإخفاق الكبير لأي قراءة مفترضة لقصيدة ما، هو أن تحجب عنّا حقيقتها وتبعدنا عنها[4].

ولتحديد ماهية الشعر، لم ينصب اختيار هايدغر على الشعراء الكبار أمثال هوميروس، أو سوفوكليس، بل اختار هولدرلين، لأنّ شعره يتضمن تأملاً لماهية الشعر، فاستحق بذلك أن ينعت بـ “شاعر الشعراء”. لكن أمام استحالة دراسة كل أشعار هولدرلين اكتفي هايدغر بتحليل خمسة أقوال شذرية تمثيلية، يكشف اقتصادها الداخلي عن ماهية الشعر. فكيف يتصور هولدرلين ماهية الشعر؟

يصعب فهم تصور هولدرلين للشعر ولعلاقته بالفلسفة والفكر، دون ربطه بالسياق الفكري العام الذي ينتمي إليه، خصوصًا التراث الرومانسي الألماني. فهذا الشاعر الاستثنائي، كان يتابع محاضرات فيخته وكان صديقًا لشلينغ وهيجل، وهو بذلك قد تشبع بالفلسفة المثالية والتراث الرومانسي الألماني. ومعلوم أنّ هذا التراث، يقوم على فكرة أنّه إذا كانت الفلسفة تقدم ذاتها باعتبارها خطاب العقل بامتياز، فإنّ أسمى فعل للعقل، هو الفعل الجمالي، الذي يعتبر الشعر من أسمى تجلياته. لذا يتعين على الفيلسوف أن يمتلك من القوة الجمالية مقدار ما للشاعر، فالشعر مربي الإنسانية.

ويرى هولدرلين أنّ الإبداع الشعري هو الانشغال الأكثر براءةً، إذ يبدو ظاهريًّا كشكل من اللعب بسيط، ويفتقر للجدية والفعالية، بل هوغارق في الخيال. إنّه نشاط أشبه بالحلم، لكن الشعر في العمق ليس لعبًا، لأنّ اللعب يجمع الناس، بحيث يجعل كل واحد منهم ينسى نفسه. أما في الشعر فعلى النقيض من ذلك، يتمركز الإنسان حول أساس كينونته، وينعم فيه بالهدوء والسكينة. لكن ليس بمعنى خمول الذهن وفراغه، بل على العكس، بالمعنى الذي تنشط فيه طاقات الإنسان وعلاقاته. إنّ الشعر يوقظ ما هو لا واقعي، وما هو حلم وخيالي في مواجهة الواقع، الذي يرسمه الشاعر ويفترضه ويؤسس وجوده بحرية. إنّ الحرية في الشعر، ولدى الشاعر مسألة حيوية، وبهذا المعنى نفهم عبارة هولدرلين “أيها الشعراء كونوا أحرارًا كالسنونو”.

و تمثل اللغة، في نظر هولدرين، مادة الشعر. فهذا الشكل التعبيري المميز، يخلق آثاره في اللغة وباللغة، لذا فماهية الشعر لا يمكنها إلا أن تتجسد في اللغة، ولا يمكن تصورها خارج إطارها. أليس الشعر بالتعريف هو “نوع من اللغة”[5]؟. واللغة في نظر هولدرلين، ليست مجرد أداة للتواصل والتعبير عن تجربة الإنسان الذاتية والوجودية، بل هي أخطر النعم الذي وهبت للإنسان، عبرها يشهد الإنسان على الوجود، وعلى انتمائه إلى الأرض، باعتباره شاهدًا على الأشياء كلها، ومتعلمًا منها.

والشعر بالنسبة إلى هولدرلين تأسيس للوجود بواسطة الكلام وفي الكلام. إنّه يؤسس كينونة الإنسان، هذه الكينونة التي هي شاعرية في العمق. وتأسيس الشاعر للوجود ليس عقلنةً ولا استنباطًا وإنّما هو عطاء حر، ذلك أنّ الإنسان يقيم شعريًّا في الأرض، عبر القرب الجوهري من الأشياء والموجودات. والشعر ليس مجرد زينة تنضاف إلى الكينونة ولا مجرد حماسة أو فورة عابرة أو تزجية للوقت ولا حتى تمظهر ثقافي أو تعبير عن روح ثقافة ما. إنّ الشعر هو الأساس الذي يسند التاريخ.

وليست ماهية الشعر فقط هي التي تتجسد في اللغة بالنسبة إلى هايدغر، بل ماهية اللغة أيضًا يمكن إدراكها انطلاقًا من ماهية الشعر. فعندما نقول إنّ الشعر هو المؤسس للوجود ولماهية كل الموجودات، بدءًا من الموجود –هنا، الذي هو الإنسان، وأنّ التأسيس يتحقق بواسطة الكلام، فلا يفهم من ذلك أنّ الكلام المقصود هنا هو أي كلام كيفما كان، وإنّما كلام عبره يجد كل شيء نفسه في وضعية انكشاف.. فإذا كان مجال اشتغال الشاعر هو اللغة، فليست أيّ لغة. فالشاعر لا يتلقى اللغة مادةً صالحةً للعمل وتحت تصرفه، وإنّما على العكس، يشتغل على اللغة، ليجعلها قابلة للإبداع. إنّ الشاعر لا يتحدث كما يتحدث الناس جميعًا، بل إنّ لغته “شاذة” بحكم أنّها تحطم اللغة العادية لتعيد خلقها. وشذوذ اللغة هذا يكسبها أسلوبًا متجددًا.

وكما أوضح أرنست كاسيرر[6]: “إذا كانت اللغة تستلزم في تطورها تجديدًا مستمرًّا، فليس هناك من مصدر أفضل ولا أكثر عمقًا، لتحقيق هذه الغاية من الشعر”. فالشاعر الكبير يطبع دائمًا تاريخ اللغة بطابعه الخاص، فهو ببساطة يمنحها حياة جديدة…

وليس الشعر في حقيقته سوى لغة بدئية لشعب ما أو بتعبير آخر، يستشف من تأويل هايدغر لمتن هولدرلين، ليست اللغة البدئية أو الأولية سوى الشعر باعتباره تأسيسًا للوجود. وهكذا، فبحكم أنّ اللغة أخطر النعم والخيرات التي وهبت للإنسان، فإنّ الشعر هو أخطر الأعمال براءةً. وتعتبر وظيفة الشاعر في نظر هايدغر وظيفة رسولية، تتمثل في تلقي الإشارات الإلهية وفي إبداع إشارات من وحيها وانطلاقًا منها، موجهة للشعب. فلغة الشاعر واسطة بين السماء والأرض، فبقدر ما هي تلق هي هبة أو عطاء جديد، يتجاوز حدود المدرك إلى التنبؤ بما لم يتحقق بعد.. والشعر كذلك تأويل لـ”صوت الشعوب”، فعبر الأساطير والحكايات والتاريخ يعبر عن انتمائه إلى الموجود في مجمله. لكن صوت الشعب يبقى خافتاً ومنطفئاً، إذ يحتاج باستمرار إلى الشعراء لتأويله، لإخراجه من دائرة الصمت والخفوت والكمون إلى دائرة القول أو التعبير الأصيل. لهذا فالشاعر يوجد في منزلة بين المنزلتين، بين السماء والأرض، بين الله والشعب، وفي هذا “البين-بين” l’entre –deux تتأسس كينونة الإنسان وتتحقق إقامة الإنسان شعريًّا فوق هذه الأرض.

ويستحق الشاعر الألماني هولدرلين في نظر هايدغر، نعت “شاعر الشعراء”، لأنّه أعاد تأسيس ماهية الشعر والتعبير عنها شعريًّا أو “شعرنتها”، وهو أفضل من جسد رسالة الشاعر المقيم بلغته الشعرية في تلك المنطقة البينية”. الحقيقة ذاتها يؤكدها موريس بلانشو، إذ غالبًا ما نقرن مهمة الوساطة باسم هولدرلين، فهو الشاعر الذي استطاع أن يعبر عن هذه المهمة بطريقة جريئة، مثلما يكشف هذا المقطع الشعري: “كما في يوم عيد، ينتصب الشاعر أمام الخالق، إنّه كما لو في اتصال مع القوة الأكثر سموًّا”[7]، اتصال يسمح له بالوصل بين السماء والأرض، بنقل الحقائق بلغة إيحائية، تحافظ دائمًا على براءتها الأولى..

ويعود الاهتمام الخاص الذي يبديه هايدغر لهولدرلين إلى أنّ هذا الشاعر الألماني المميز، استطاع أن يعبر في نصوصه عما لم يتمكن الفلاسفة من عرضه إلا بواسطة الفكر. ففي “رسالة في النزعة الإنسانية” يعزز هايدغر هذا التصور لعلاقة الشعر بالفكر والفلسفة، بقوله، إنّ الفكرة التي سبق لأرسطو أن عبر عنها في كتابه “فن الشعر” تظل صحيحة دائمًا: فالإبداع الشعري أكثر صدقًا من البحث المنهجي في الموجود. فبحكم أنّ اللغة هي مأوى الوجود، حيث يأوي الإنسان، وحيث يوجد بالمعنى الهايدغري للكلمة، أي بانتمائه إلى حقيقة الوجود الذي يحرسه ويرعاه.. فإنّ المفكرين والشعراء هم الحراس الفعليون لهذا المأوى والساهرون عليه من خلال سعيهم المتواصل إلى تحرير اللغة من روابط النحو، وخلق تمفصل أكثر أصالةً لعناصرها.

إنّ الفكر الذي يتبلور من حيث المبدأ، ويتشكل تاريخه في خضم الفلسفة، أسمى من الفلسفة. ومع ذلك يعتبر هايدغر الفكر طريقًا، وفي الطريق. وكما قال في “رسالة في النزعة الإنسانية” إنّنا سنظل مثل مسافرين في الطريق نحو جوار الوجود، أي تفكير في اتجاه حقيقة الوجود. ولهذا اختار هايدغر لسلسلة مؤلفاته الكاملة شعار “طرق لا مؤلفات”. ولا يضع هايدغر أبدًا الفلسفة والعلم في المستوى نفسه للفكر والشعر، اللذين على الرغم من اختلافهما الجذري، بينهما قرابة وتواز[8]..

وتبرز قرابة الفكر والشعر وانسجامهما القوي، بشكل خاص، في خدمتهما للغة، بل واستماتتهما في هذه الخدمة، وإن بطريقتين مختلفتين تمامًا. “فما يقوله الشاعر ويقوله المفكر ليسا أبدًا متطابقين ولكن يمكنهما أن يقولا نفس الشيء، بكيفيتين مختلفتين”[9]. ومع ذلك فبينهما هوة عميقة. فبقدر عظمتهما بقدر القوة التي تفصل بينهما، فكما عبر عن ذلك هولدرلين بلغته الشعرية: إنّهما “يسكنان جبلين منفصلين أشد انفصال”…

ميلان كونديرا وسمو الرواية

إنّ انتصار كونديرا لـ”فن الرواية” يدفعه إلى تصور تاريخ مغاير للحداثة، يمتد بجذوره إلى عوالم سرفانتس الروائية. فمثلما اعتبر هيجل موقف ديكارت موقفًا بطوليًّا، عندما وجد في الكوجيطو (“الأنا أفكر”) أساس كل شيء، ووقف هكذا في مواجهة الكون وحيدًا، يعتبر أنّ سرفانتس، لا يقل بطولة عن صاحب “مقال في المنهج”، وذلك عندما أدرك العالم بوصفه شيئًا غامضًا، وقرر بجرأة وقوة مجابهة الحقائق النسبية المتناقضة، المحيطة بالإنسان، بدلاً من مواجهة حقيقة مطلقة واحدة[10]. يرتسم إذن طريق الرواية، في نظر كونديرا، تاريخًا موازيًا للأزمنة الحديثة.

ويعتبر كونديرا أنّ فن الرواية الذي نشأ مع سرفانتس، يمثل ترياقاً وخلاصًا لتجاوز الأزمة التي ألمت بالإنسية الأوربية، التي تحدث عنها الفيلسوفان الألمانيان، هوسرل وهايدغر، والتي بدأت أعراضها الأولى تظهر مع غاليلي وديكارت ونزعتهما التقنو-رياضية، التي بقدر ما حاولت الكشف عن قوانين العالم الرياضية، بقدر ما تغافلت حقيقة “عالم الحياة” وحقيقة الإنسان. من هنا، فإذا كان تاريخ الفلسفة والعلوم، منذ بداية الأزمنة الحديثة بشكل خاص، قد قام على ما يسميه هايدغر نسيان كينونة الإنسان، فإنّ الرواية استطاعت، في نظر كونديرا، أن تنفذ إلى حقيقة هذا الكائن المنسي، إلى حد أنّ جميع الثيمات الوجودية الكبرى التي حللها هايدغر في كتابه العمدة “الكينونة والزمان”، باعتبارها شكلت اللامفكر فيه في الفلسفة الأوربية السابقة، قد تم الكشف عنها، وبيانها، وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية[11]. وعلى سبيل المثال فقط، يعتبر كونديرا أنّ الفلاسفة الوجوديين ينزعون إلى حقن كلمات اللغة اليومية بدلالات فلسفية عميقة، إلى درجة أنّه يصعب النطق بكلمة قلق مثلاً، دون التفكير في المعنى الذي يمنحه لها هايدغر، غير أنّ ذلك لا يعني سبقًا مفترضًا لهؤلاء الفلاسفة الوجوديين، فقد سبقهم إلى ذلك الروائيون[12].

إنّ كونديرا لا يؤمن بمركزية الرواية فقط، باعتبارها الشكل الأدبي والتعبير النموذجي قياسًا إلى باقي الأشكال التعبيرية الأخرى (الشعر وغيره..الخ)، بل نعاين لديه تمركزًا حول أوربا باعتبارها الجغرافيا والتاريخ اللذين معهما بدأت الرواية وإليهما تنتهي[13]…لكونديرا إذن نزعة مركزية مزدوجة، نستشفها من قوله: “إنّ الفن الأكثر أوربية هو فن الرواية….الأوربيون هم “أبناء الرواية”، فهذا الفن هو الذي كونهم. وأوربا “مجتمع الرواية”..

صحيح أنّ كونديرا، يضفي نوعًا من النسبية على مركزيته الأوربية، عندما يقر بأنّ هناك روايات أخرى، تنتمي إلى حضارات غير أوربية (الصينية واليابانية..الخ)، لكن عيب هذه الروايات هو أنّها لا ترتبط بأي استمرارية في التطور مع المشروع التاريخي الذي نشأ مع رابلي وسيرفانتيس في أوربا. وإذا ما حققت حضارات أخرى غير أوربية إنجازات مهمة في “فن الرواية”، كما هو حال روايات أمريكا الجنوبية في القرن المنصرم، التي أبدعت، بشهادة كونديرا ثقافة روائية عظيمة، تتميز بحس واقعي عجيب، له علاقة بخيال جامح، يتجاوز كل قواعد الاحتمال، فإنّ صاحب “الكائن الذي لا تحتمل خفته”، لا يتوانى عن اعتبارها امتدادًا لتاريخ الرواية الأوربية، ولشكلها وروحها، بل يعترف بأنّ النسغ الرابلية، نسبة إلى رابلي، الذي اشتهر بكتاباته ذات النزعة الغرائبية والسحرية، تكاد لا تسري اليوم في أي مكان آخر غير أعمال هؤلاء الروائيين غير الأوربيين: روائيي أمريكا الجنوبية[14].

وعلاوة على ما سبق، يظهر سمو الرواية عند كونديرا كذلك، في قدرتها على استكناه روح الشعر نفسه، أليس الروائي كما يقول “يكشف عن ما لا يمكن لغيره أن يكتشفه”[15].

من هنا أفرد رواية خاصة للاحتفاء بالشعر والشعراء، ولبسط تصوره للشعر، عنونها بـ: “الحياة في مكان آخر”، رصد فيها حياة شاعر شاب من زمننا هذا، اسمه جيروميل، وتعقب فيها أثر خطواته، بين مسالك تاريخ الشعر الأوربي، وهو يقتفي مسار شعراء كبار من طينة تراكل وجيسنين ومايكوفسكي وبلوك وهولدرلين وليرمنتوف وبوشكين وكيتز ووايلد وريلكه ورامبو…الخ[16].

والمفارقة هي أنّه بقدر إيمان كونديرا القوي بسمو الرواية، إلا أنّه يكشف في روايته “الحياة في مكان آخر”، عن الشاعر الثاوي في أعماقه، ويفصح عن موهبته شاعرًا، متمكنًا إلى حد بعيد من كيمياء الشعر، وملمًّا باستراتيجيات الكتابة الشعرية..

وإذا ما صدقنا ما يورده كونديرا عن الشعر في متن روايته، فيمكن القول إنّ قوة الخطاب الشعري بالنسبة إليه تتجلى في طبيعته بوصفه مجالاً كيميائيًّا، يتحول في خضمه كل إثبات إلى حقيقة، بحيث يصدق الشاعر عندما يعتبر “الحياة بلا جدوى مثل البكاء”، أو عندما يرى أنّ “الحياة مرحة مثل الضحك”. لكن هذه القوة، تمثل في ذاتها هشاشةً وضعفًا، تجعل الشاعر لا يحتاج لإثبات أي شيء، فدليل صدقيته يكمن في قوة شعوره لا غير. أما شعره، فعلى الرغم من نضجه وسموه إلى مرتبة النبوة، الشيء الذي يجعله يستعصي على الإدراك، حتى بالنسبة إلى الشاعر نفسه، فهو يصدر في الغالب عن إنسان غير ناضج. ذلك أنّ ما يوحد كل الشعراء الكبار أمثال تراكل، وجيسنين ومايكوفسكي وهولدرلين وبوشكين، وغيرهم كثير، هو أنّهم قضوا مجمل حياتهم تحت كنف امرأة، لذا يبحث الشاعر باستمرار عن سمات الرجولة فيه أو عن استعادة رجولته، وانتزاع ذاته من بين أحضان المرأة ( الأم أو الأخت أو الخالة أو المربية)[17]..

إنّ كونديرا لا يحط من قيمة الشعر، لكن كونه يعلي كثيرًا من شأن الرواية، إلى درجة اعتبارها شكلاً تعبيريًّا محوريًّا، يعني ضمنيًّا، إزاحة الشعر عن عرشه، كما يتصوره فيلسوف مثل هايدغر…

علىسبيل الخاتمة:

انطلاقًا مما سبق، يمكننا أن نتساءل حول ما إذا كان موقف كونديرا، ليس في انتصاره للرواية، وإنّما في استهدافه المكانة التي يحظى بها الشعر، بمثابة نتيجة للقطيعة التي ميزت الثقافة الغربية ابتداءً من عصر النهضة وخصوصًا منذ القرن السابع عشر، بانفصال مجال الثقافة العلمية والتقنية عن مجال الثقافة الإنسانية والأدبية، وضمنها طبعًا الشعر. فكما يؤكد إدغار موران “وجد الشعر نفسه عقب هذا الانفصال في وضعية تدهور: تدهور إلى مرتبة الترفيه والتسلية، وتدهور إلى مستوى المراهقين”[18] أمثال جيروميل، بطل رواية كونديرا، ومن ثمة، يحق لنا أن نستنتج – مع إدغار موران دائمًا-، بأنّ الإنسان في حقيقته، لا يسكن الأرض شعريًّا فقط، كما يذهب إلى ذلك هايدغر، وإنّما شعريًّا ونثريًّا أو روائيًّا في الآن نفسه. إذ لو لم يكن النثر لما كان الشعر، والنثر لا يمكنه أن يوجد إلا في علاقة مع الشعر[19]. من هنا فالإنسان له وجود مزدوج، يتحول فيه الشعر والرواية إلى ترياق ضد استبداد العلم والتقنية و”الفلسفات” الثاوية خلفهما…

 مسرد المراجع والإحالات:

–       Pierre Lauret, Gadamer lecteur de Paul Celan, in Cahiers Philosophiques N 95,

–       Milan kundera «l’art du Roman» éd Gallimard 1986.

–       M. Heidegger, Approche de Hölderlin, Ed.

–       Ernst Cassirer, Essai sur l’homme, tr Norbert massa, éd Minuit, 1975

–       Maurice Blanchot, l’itinéraire de Hölderlin, in L’espace littéraire

–       Jacques Derrida, Heidegger et la Question, Paris, éd Flammarion, (coll. «Champs»), 1990

–       Milan Kundera «les testaments trahis» éd Gallimard 1993.

–       E.Morin, la source de la poésie, in Amour, Désir, Sagesse, 2D Seuil, 1997

–          مارتن هايدغر، “التقنية، الحقيقة والوجود”، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي.

–          جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، 1986


[1] Pierre Lauret, Gadamer lecteur de Paul Celan, in Cahiers Philosophiques N 95, 2003, PP35-48.

[2] Milan kundera «l’art du Roman» éd Gallimard 1986, PP12-13.

[3] M. Heidegger, Approche de Hölderlin, Ed, P7.

[4] Pierre Lauret, Gadamer lecteur de Paul Celan, Op, Cit, PP35-48.

[5] جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، 1986، ص 16

[6] Ernst Cassirer, Essai sur l’homme, tr Norbert massa, éd Minuit, 1975, P316.

[7] Maurice Blanchot, l’itinéraire de Hölderlin, in L’espace littéraire, P568.

[8] Jacques Derrida, Heidegger et la Question, Paris, éd Flammarion, (coll. «Champs»), 1990, P214

[9] مارتن هايدغر، التقنية، الحقيقة والوجود”، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، ص 198

[10] Milan kundera «l’art du Roman» Op, Cit, P14.

[11] Ibid, PP12-13.

[12] Milan Kundera «les testaments trahis» éd Gallimard 1993, P271.

[13] Ibid, P41.

[14] Ibid, P45.

[15] Milan kundera «l’art du Roman» Op, Cit, P19.

[16] Milan Kundera «la vie est ailleurs» Op, Cit, P149.

[17] Ibid, P243.

[18] E.Morin, la source de la poésie, in Amour, Désir, Sagesse, 2D Seuil, 1997, PP37-50.

[19] Ibid, PP37-50.

المصدر : موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث من هنا

اترك تعليقاً