مقالات نقدية

الحس الجمالي عند شعراء الحداثة المعاصرين

عصام شرتح

قد لا يختلف اثنان أن الحس الجمالي هو الحكم الفصل في الكشف عن شعرية الإبداع وطاقته الفنية؛ خاصة إذا أدركنا أن الحس الجمالي هو جوهر ما يروم المبدع تحقيقه في منتجه الشعري؛ فالشاعر المبدع هو الذي يملك أقصى درجات الحساسية الجمالية في تشكيل نصه، بطرائق تشكيلية مبتكرة؛ تروم الوصول إلى قمة اللذة والإثارة الشعرية؛ في تفعيل نصه،ليكون أكثر قبولاً واستحساناً من قبل المتلقي؛ولا نبالغ إذ نقول:
إن إثارة المستوى الجمالي –عند شعراء الحداثة- تبين لنا درجة جمالية النصوص الشعرية؛ وغناها بالمقومات، والمثيرات الفنية؛ولا يمكن أن تحصل اللذة الجمالية في تلقي النصوص الشعرية بمعزل عن تحقيق هذه القيمة؛ولهذا؛ فإن من أولى مؤشرات الشعر الضرورية تحقيق المتعة الجمالية؛ولعل أبرز النقاد الجماليين إشارة إلى هذه القيمة الناقد الجمالي الفذ( جان برتليمي) الذي يقول:( إن الأعمال الفنية الجميلة تمتع الإنسان بالجمال الذي تغذيه”(1). وهذه المتعة الجمالية؛ إن لم تحقق قيمة جمالية أو فنية لا أهمية لها في عالم الفن؛ لأن الفن- بالأساس-” من معدن القيمة،وليس من معدن الوجود”(2).وكل ما هو موجود لا قيمة له في عالم الفن، إن لم يكن ذا قيمة في تحريك الخيال،وإثارة مشاعر جديدة، وروى مبتكرة تملك قيمها الجمالية العليا، وتولد إثارتها الشعورية المحفزة، ومنظورها الإيحائي الجديد أو المتجدد.
وبهذا التصور،والوعي النقدي،تؤكد الناقدة بشرى البستاني”الفن الحقيقي هو الفن القادر على دمج القيمة بالجمال؛ليحقق تواصلاً من نوع خاص؛ حيث تتضمن القيمة جمالها المندمج بجمال المتعة الفنية،وهي تقدم لنا عالماً ينأى عن العالم المادي القائم على ثقل الأشياء وصلابتها،وهو- أي فن الشعر- بقدرته على عزلنا عن فداحة عالم الواقع، يسمو بنا نحو خلاص روحي هو الانعتاق الفريد، وذلك أسمى ما يضطلع به الفن من مهمات”(3).
والقيمة الجمالية لا تتحقق في مضمار الفن الشعري تحديداً إلا بالمخيلة الإبداعية الخلاقة التي تنتج ما هو مغاير؛وتمنح الأشياء خصوصية ما غير معهودة في شكلها الواقعي الحسي(المرئي)؛ومطها الإيحائي؛ فالمبدع هو الأقدر على إكساب الصور المجردة أو التجريدية رؤية حسية( جمالية)،ولذلك، فإن” الفنان المبدع بما تتسم به مخيلته في سعة معهودة هو الأكثر قدرة على العيش بصورة دائمة مع كثافة اللحظة الشعرية وضغوطاتها التي تتحول وتتغير باستمرار. فالشعور المستمر الذي يتميز به الفنان الأصيل في حياته هو نتاج تحرك حواسه وعقله كجهاز استقبال بالغ الدقة للرسائل؛ حتى في الأوقات التي يبدو فيها الفنان عديم النشاط”(4)
وبهذا التصور،نقول: إن الفن المنتج يخضع لمؤثرات وعمليات مخاض جمة حتى أنتجته؛وهذا يعني أن الفن الإبداعي الحقيقي لا يأتي عن فراغ؛ وإنما هو حصيلة مؤثرات، ومقومات، وبواعث، ونشاطات عديدة؛ تشكل أرضيته الفنية،وتحقق قيمته الجمالية؛ يقول (مالارميه):” لا ترسموا الأشياء؛وإنما ارسموا الباعث الذي يسبب رسمها”(5).
فالمنتجات الفنية أو المحفزات الفنية هي التي تسهم-بشكل رئيس- في إنتاج الفن؛وهذا يعني أن دوافع الفن هي التي تملك السيادة في إنتاج الفن، أو خلق الفن،وهذا يعني أن دوافع الفن هي التي تملك السيادة في إنتاج الفن؛ولهذا؛ فإن الفن تمجيد للحظة،وإكسابها السرمدية والخلود؛وبهذا التصور يقول جان برتليمي”إذا كان الفن يمنح الخلود للحظة؛ فذلك لأنه رأى أنها تستحق الخلود؛وهو وسيلته لإعلاء الشيء الذي ينتقيه”(6).
ولهذا؛ يقال عن الفن الممتع أنه الخالد أو الفن السرمدي؛ ذلك أنه يجمد اللحظة،ويكسبها الجاذبية والحيوية، والتأثير(الدائم)،ومن أجل هذا؛ لابد لتخليد اللحظة السرمدية، أو اللحظة الفنية من بناء هندسي فني متكامل؛ يضمن لها سخونة الإيحاء والتأثير؛ ولهذا؛ فإن البناء الهندسي/ الجمالي أو الفني شرط ضروري من شروط جمالية القصيدة،واكتنازها الفني؛ وهذا ما أشار إليه الشاعر العراقي يحيى السماوي قائلاً:” النص الشعري بناء هندسي فني معماري، ونبض شعوري دافق؛ولأنني أؤمن بهذا ، فقد أوليت مادة هذا البناء- اللغة- الاهتمام الكبير على اعتبار؛ أن اللغة هي الإناء لمادة المعنى؛والمداليل التي تتشكل من النفثات الشعوري لحظة المخاض الشعري القابلة للتمدد؛ بمعنى أنني في كثير من الأحيان أكتب القصيدة على مرحلتين، الأولى كتابتها كشاعر؛والثانية كتابتها كناقد،فأحذف وأضيف، أو أعيد صياغة، بعض الجمل الشعرية كي يكون البناء الهندسي أكثر استكمالاً لشروط الفن الشعري”(7).
ووفق هذا التصور؛ يبدو لنا أن الفن خصوبة رؤية ،وشكل فني متقن، أو متكامل؛ولا قيمة للشكل- بمنظورنا- بمعزل عن فنيته، وهندسته،وأحكامه، ضمن شروط فنية يقتضيها العمل الفني ذاته في تحقيق وجوده وخصوصيته الفنية.
وفي ظننا إن القيمة الجمالية لأي منتج فني إبداعي خاصة الشعر تكمن في الصورة الفنية، أو الجمالية التي ينطوي عليها الشكل في بنائه الفني،وهذا يتطلب خبرة جمالية كافية، ومرجعية إبداعية خصبة لدى الفنان في معايشة الواقع و الإرتقاء بحيثياته إلى آفاق جديدة تجعل من نصه الشعري طاقة عالية من الإيحاء، والجاذبية الفنية، والألق الجمالي.
يضاف إلى ذلك أن القيمة الجمالية- في فن الشعر تحديداً- تختلف درجتها من قصيدة إلى أخرى؛ومن صورة إلى أخرى،ومن مقطع شعري إلى آخر أحياناً؛ وهذا يعني أن القيم الجمالية متنوعة، ومتغايرة على الدوام، فلا يمكن للقيم الجمالية أن تثبت في القصيدة الواحدة، أو تكون هي نفسها في القصائد الأخرى؛ بحيث تكون لكل قصيدة واقعها اللغوي المميز،وحسها الجمالي المرهف، وفعلها الإيحائي الخاص،وفاعلها الرؤيوي المؤثر ؛ ولهذا، فإن القيم الجمالية منزلقة في الفنون جميعها، خاصة في الفنون الأدبية( الشعر- القصة- الرواية- المسرح)؛وهذا دليل تجدد الفنون، واستمرار حراكها الفني،وإفرازاتها الجمالية على الدوام.
ولاشك في أن القيم الجمالية لفن الشعر تحديداً مزجت بين المؤثرات، أو كانت حصيلة مجموعة من المؤثرات(الفلسفية،والدينية، والمثيولوجية،والنفسية،واللغوية)؛وهذا كان له تأثيره البالغ في الوعي الإبداعي الشعري لدى الكثير من الشعراء، حيث أدرك جلهم أن الجمال الشعري لا يأتي من التجانس والانسجام فحسب، كما يرى الكثير من علماء الجمال أمثال(برجسون- وديالكرو)؛وإنما ينشأ من اللاتجانس واللا انسجام، أو التباعد، والتنافر(اللاتقارب) بمعنى أن ألق الشعرية يكمن في المواربة والاختلاف وليس بالمشابهة والتناسخ لأن الإبداع الحقيقي عدو ذلك ومضاده الوجودي؛وهذا ما أكده عربياً الناقد( كمال أبو ديب)؛ إذ يقول:”إن الشعرية جوهرياً ليست خصيصة تجانس وانسجام،وتشابه،وتقارب، بل نقيض ذلك كله. اللاتجانس واللاانسجام،واللاتجانس،واللاتقارب؛ لأن الأطراف السابقة تعني الحركة ضمن العادي، لأن الأطراف السابقة تعني الحركة ضمن العادي المتجانس، المألوف (النثري). أما الأطراف الأخرى فتعني نقيض ذلك: أي الشعرية”(8).
وبتقديرنا: ليست الشعرية حصيلة الاختلاف أو التنافر،وليست حصيلة الانسجام والتجانس؛وإنما هي حصيلة التعدد الدلالي،والتفاعل الرؤيوي بين الأنساق في شكل فني جذاب، أو رؤية فنية بصرية مموسقة،تصل حد الاستثارة والتحريض الجمالي؛ فالنص المبدع يملك سلطة جمالية وهذه السلطة هي:” التي تتيح للنص التعدد الدلالي؛وتفجير المعنى،والحركية الدائبة التي تجعله يتوافق حيناً،مع بعض قواعده الفنية، أو يتحرر منها؛ أو يتعارض معها؛ أي حركية تتشكل من خلال المد والجزر بين المعاني ونقيضها، أو القواعد التركيبية وضدها؛بل إن هذه الحركية قد تتشكل أيضاً من خلال حركية المعاني في النص؛ومن الأفعال اللغوية الدالة على الحركية، لأنه نص متفجر يأبى الترويض،والتبعية،ومتحلل إلى جزئيات دقيقة لا يمكن الإمساك بها أو تقييدها عند معنى معين”(9).
وتأسيساً على هذا، يمكن أن نعد السلطة الجمالية للنص الشعري من أهم المؤثرات التفاعلية الجاذبة التي تستقطب القراء إلى فضاء النص الشعري، وإبراز ديناميته الدلالية،ومساراته الإبداعية؛ فالنص الإبداعي الجمالي الذي يملك المخيلة الفنية، والقدرة الفائقة على تلقي النص،وتفكيك عناصره،بحس إبداعي رهيف؛ ونبض جمالي شاعري مؤثر؛ ولهذا يرى الشاعر صالح هواري:” إن أزمة التلقي كامنة في المبدع نفسه، فهو بقدر ما يمكن أن يبتكر نصاً حقيقياً مستوفياً لشرائطه الفنية، بقدر ما يتواصل معه القارئ”(10).
وهذا يعني أن المسؤولية في تنامي فاعلية التلقي الجمالي تقع على عاتق المبدع؛ أو الفنان، في خلق المنتج الفني الجمالي المؤثر الذي يشد إليه المتلقي البارع الذي يملك الرؤية،وينهض بسوية المنتج بوعيه الفني، وإدراكه المعرفي، وقدرته على تفكيك النص، واستكناه قيمه الجمالية.
وإننا ندرك – في محصلة ما ذهبنا إليه من رؤى وتنظيرات وآراء- أن فنية الشعر، أو جمالية الشعر تتحدد في الأسس الجمالية التي تتشكل منها القصيدة؛ ابتداءً من العتبة العنوانية،وصولاً إلى آخر كلمة في جسد القصيدة؛وبناءً، على هذه المؤشرات سندرس إثارة هذا المستوى وفق ما يلي:
جمالية الكلمة:
ونقصد ب( جمالية الكلمة): جاذبية الكلمة أو فنية تمركزها في سياق فني يدلل على شعرية ارتباط الكلمة مع مثيلتها، في المتن الشعري؛ بحيث تبدو الكلمات متفاعلة في وقعها وأثرها الشعري؛ وينتج عن هذا التفاعل رؤية جمالية تستثير القارئ،وتدفعه إلى تحثث الأثر الجمالي لهذا التشكيل الذي أثارته الكلمة في نسقها الشعري، من خلال تضافرها وتفاعلها مع باقي الكلمات المؤسسة للمتن الشعري.وهذا دليل أن:” الكلمة تشكل الركن الثاني مباشرة بعد الصوت في بناء النص الشعري، على أنه لا يمكن فهم أية كلمة على نحو تام بمعزل عن الكلمات الأخرى ذات الصلة بها؛والتي تحدد معناها؛ لأن معنى الكلمة يعتمد في المقام الأول على معاني الكلمات المتضافرة وبرغم تعدد المفاهيم إلا أننا نستطيع القول: إن الكلمة تساوي الوحدة المعجمية التي تشكل بدورها الوحدات الصغرى للنص؛ولا يمكن فهم معنى الكلمة أو الوحدة المعجمية للنص بمعزل عن الوحدات المعجمية الأخرى.”(11).
وبهذا التصور، فإن اشتغال الكلمة جمالياً لا يتحدد إلا في نطاق العلاقة التجاورية الرابطة التي تربط الكلمات مع بعضها بعضاً داخل النسق الشعري؛وتبعاً،لهذا:” يتشكل سياق الكلمة في النص من خلال ثلاثة أبعاد: الأول السياق الذاتي للكلمات؛ويُعنى بالسوابق واللواحق،والثاني البعد التجاوري،ويعنى بعلاقة الكلمة بما يجاورها مثال (الجناس،والتضاد،والترادف، والموقف،والعاطفة)، والبعد الدلالي. ويتمثل في الدلالة المركزية التي تطرح معنىً واحداً،والدلالة الفرعية التي تطرح أبعاداً متعددة”(12).
وهذا يعني أن أية قيمة جمالية تستثرها الكلمة في نسقها الشعري لا يعزى إلى بنية الكلمة ذاتها؛ بقدر ما يعزى لسياقها؛ بحيث تكون الخلية اللفظية للكلمة نابعة في إيقاعها وطيفها الجمالي من تموضعها الشاعري في نسقها،وجمالية الإسناد الشعري الذي حقق هذه القيمة الجمالية أو تلك.
وبمقدار ما يوجه الشاعر الكلمة توجيهاً جمالياً في الإسناد بمقدار ما يكسر توقع القارئ،ويهيئ للمتلقي دواخل شعورية جديدة إزاء هذا الإسناد المفاجئ،وما أثاره من حركة جمالية داخل السياق الشعري،من خلال التجاور الفني أو (الانزياح المفاجئ في حركة الإسناد على مستوى الكلمات، والأنساق اللغوية الرابطة.
وبتقديرنا:
إن قيمة الكلمة جمالياً- في بنية القصيدة الحداثية- تعتمد على درجة حساسية الشاعر،وموهبته الجمالية في تشكيل الكلمة المحركة للنسق، بحيث يكون للكلمة وقعها الخاص،وأثرها الفني الجمالي المميز؛ لدرجة يؤدي وقعها في أعماقه لذة؛ وشعوراً بالنشوة، والارتياح؛وكأن الكلمة لبست لبوساً جديداً،واكتست حلة جديدة ما كانت لتكتسبها لولا هذا الانسجام والتواشج الجمالي داخل السياق؛وهذا ما نلحظه في المقتطف الشعري التالي لشوقي بزيع:
“وهل تكفي يدانِ كي أضمكِ
أو فمٌ لأصبَّ في شفتيكِ
معصية الجسد؟!
نامي.. لكي ترثَ البلابلُ وجهكِ الغافي
ويقتطعُ الحريرُ نصيبه
مما تبقى من غيومكِ
في الخيال
نامي لينسدلَ الستارُ على المرايا
والبراعمِ والظلالْ”(13).
إن من يتأمل سيرورة الكلمات جمالياً في النسق الشعري السابق يدرك أن قيمة الكلمة تأتي من تجاورها الصوتي المموسق في التركيب؛ إذ إن التشكيل الشاعري التالي:[ معصية الجسد]؛ لم ينل أثره من ظلال كلمة(معصية) مفردة؛ أو لفظة (الجسد)، وإنما من التجاور الفني الذي خلق هذه الاستعارة الجمالية أو الانزلاقة التشكيلية؛وهذا ما أشعل النسق توهجاً وإثارة جمالية؛وهذا القول ينطبق تماماً على التشكيل الفني التالي(وجهكِ الغافي)؛ فلفظة( وجهك) مفردة لا تحقق وقعها الفني، أو طيفها الجمالي المشع إلا بتفاعلها ضمن النسق مع باقي الكلمات خاصة؛ عندما تكون الكلمات جديدة أو غير متوقعة في الإسناد؛وهاهنا أعطى الشاعر قيمة جمالية للكلمات من خلال حيوية الإسناد،وثراء التعابير؛وهذا ما ميزه شعرياً عما سواه في تخليق الكلمة المثيرة في النسق الشعري الجمالي المناسب لها تماماً،وكأنها صبت له دون سواه. وهذا دليل أن” الشاعر يمتاح من إيحاءات الكلمة ما يغني تجربته الشعرية؛ولهذا؛ ينتقي من اللغة المفردات التي تتناغم مع موقفه الوجداني وتموجاته النفسية؛ذلك أن لكل كلمة نغمها الخاص المتولد عن تتابع الأصوات والمقاطع،وما يميز الشاعر المبدع عما سواه الاهتداء إلى الكلمة التي يقتضيها السياق، بحيث يقرع الأذن جرسها عند التلفظ بها،فتولد عند المستمع أثراً رناناً يتساوق مع الغرض الذي يقصده الشاعر”(14).
وبالتأكيد إن قيمة الكلمة(جمالياً )سواء أكانت اسماً أم فعلاً أم حرفاً) تتجلى” من خلال أسلوب تناولها،وطريقة توظيفها، بوصفها أداة شعرية تحمل مغزىً يعكس شعوراً داخلياً يريد التعبير عن التجربة الوجدانية؛ولهذا، يدأب الشاعر على اختيار الكلمة التي يمكنها إحداث التناغم والانسجام بين أجزاء النص الشعري، بحيث تتحول الكلمة إلى دلالة تحرك المعنى وتقويه”(15).
وبهذا التصور، فإن للكلمة إشعاعات داخلية( ذاتية)،وانبثاقات دلالية سياقية تأتي من العلاقات الرابطة في السياق، ولهذا؛ تملك الكلمة الشعرية طاقات تعبيرية هائلة لا يمكن تحديدها إلا من خلال سياقها؛ وهذا يعني: ” أن الكلمة الإيحائية للكلمات لا يمكن أن تتحقق وتكتمل إلا عبر العلامات التي توجه التقاءها وتراكبها في الخطاب الشعري”(16).
ومن أجل هذا، نلحظ توهجاً لبعض الكلمات في السياق الشعري،نظراً لتساوقها مع التجربة الوجدانية ونبض المشاعر ودفق الأحاسيس،وهذا ما نلحظه في المقطع الشعري التالي لعلي الجندي:
” يا ورق الشمس الأخضر يهمي في صمتِ الأوهام
يا نرجسةً تزهو في كل فصول العام
يا قوس القزح المحزون الممتد خلال سماء الأحلام
أشتاقكِ في اللحنِ المنسابِ خلال عروقي”(17).
يتضح من خلال السياق الشعري أن للكلمة الشعرية طاقة تعبيرية جمالية تنطوي عليها من خلال خصوبة الإسناد، كما في الأنساق التالية(صمت الأوهام = سماء الأحلام)؛وهذا التناغم الانسيابي الشاعري لم يأتِ عن عبث،وإنما جاء عن وعي جمالي،وحس فني،وقدرة إبداعية على تخلق الكلمة الشعرية التي تتفاعل مع ما يليها أو يسبقها من عناصر التركيب، مما يزيد من توهج الأنساق جمالياً،وإيقاعاً مرهفاً تطرب له القلوب،وتزهو؛ كما في قوله:( أشتاقك في اللحن المنساب خلال عروقي)، فكان للفظة( أشتاقك) إيقاعاً أو رنيناً صوتياً مؤثراً في التغبير عن عاطفته المصطهجة بالحب والحيوية والحياة. وهذا دليل أن الشاعر المبدع يختار الكلمات المؤثرة التي تحمل قوة تعبيرية هائلة في الدلالة على الموقف أو الحالة الشعورية بكل ألقها، وتوهجها العاطفي.
والجدير بالذكر أن قيمة الكلمة جمالياً ليست فقط نتيجة التفاعل النصي مع باقي الكلمات،وإنما بما تملكه من وقع صوتي مؤثر وحراك مدلولي مكثف تكتسبه من سياق اقترانها، وتجاورها من جهة، وبنيتها الصرفية من جهة ثانية؛وللتدليل على فاعلية الكلمة جمالياً نأخذ المقطع الشعري التالي لفايز خضور:
“تتلمَّظين بقهوة الصبح الحنون،
وتنفثين ضياء تبغكِ
تنعمين بدفءِ عريكِ.. تنتشين بدمعِ خافقكِ الوجيفْ!!”(18).
إن القارئ هنا، يحس بوقع الكلمة صوتياً ودلالياً، بمعنى أن الكلمة تخلق قيمتها الصوتية والدلالية،وهذه القيمة تنبع من قوة دلالة الكلمة(الفعل)، كما في كلمة( تتلمظين)وما تثيره من إيحاء في بنية الصورة التالية: (تتلمظين بقهوة الصبح الحنون)؛وهاهنا، يعي الشاعر بأثر الكلمة(صوتياً ودلالياً)معاً في إحداث القوة البلاغية للصورة،وتخليق سحرها ونبضها الجمالي،وهي الدلالة على جمال المحبوبة، وسحرها، وألقها الروحي،وهي ترشف بشفتيها قهوة الصبح،وتنفث جمالها، وضياءها على المخلوقات؛وهذا لا يقتصر فقط على دلالة الكلمة( الفعل) وقوتها البلاغية،وإنما يمتد إلى الأنساق الجمالية الأخرى،كما في قوله :[تنتشين بدمع خافقكِ الوجيف]؛ إن إسناد صفة( الوجيف ) إلى (الخافق) قد منحها فيوضاً دلالية،وحمولات إيحائية زادت من شعرية النسق، وقيمة الصورة جمالياً؛وهذا دليل أن للشاعر تأثيره الفعال في انتقاء الكلمات المناسبة في السياقات الإبداعية المخصصة لها تبعاً لعمق التجربة، وفاعلية الرؤية الشعرية. وهذا ما يميز شاعر عن آخر،ويؤكد سموقه الإبداعي، وتميزه الجمالي
” فإذا كان الشاعر لا دور له في جمال الكلمة الذاتي، فإن دوره في سوء الاختيار أو حسنه كبيراً جداً وانتقاء كلمة دون كلمة،وتفضيل واحدة على أخرى،هذا كله يظهر براعة الشاعر في استخدام الكلمة”(19). والوعي الفني في تشكيلها والقيمة الجمالية المتوخاة من إلصاق كلمة إلى أخرى،وما تولد من إيقاع،وما تثيره من حركة دلالية أو جمالية مخصوصة رامها الشاعر في هذا النسق أو سواه.
جمالية الجملة:
ونقصد ب( جمالية الجملة): القيمة الجمالية التي تستحوذ عليها الجملة من خلال الانزياح اللغوي الفني في تشكيلها، أو إسنادها؛ فكم من الجمل الشعرية قد ارتقت بفاعلية الإسناد،وخصوبة الرؤية، والتوظيف الفني الموحي للكلمات في نسقها؛والعكس كذلك أيضاً؛ فالشاعر عندما يفشل في الاختيار الفني تضمحل القيمة الجمالية،وتبدو الكلمات قاتمة جافة لا قيمة لها؛ولهذا؛ نؤكد على مقولة صائبة في النقد الشعري مفادها:” ليست الكلمة في المفردات في ذاتها،ومن حيث هي كذلك؛ولا في النظام النحوي في ذاته،ومن حيث هو كذلك،ولكنها في الاختيار الدقيق بين المفردات والنظام النحوي”(20).
وهذا يعني أن فاعلية الجملة تأتي من حسن الاختيار،وبراعة التشكيل،ولهذا” تتطلب لغة الشعر نمطاً معيناً من القول؛وإن كانت لا تتطلب مفردات خاصة؛ولذلك؛ فإنها تصل إلى أرقى الدرجات من خلال استخدام جميع وسائل التركيب الممكنة؛وهاهنا، تعتمد جمالية الأسلوب الشعري على طريقة تشكيل المفردات في جمل تدخل في سياق يفصله الشاعر نفسه في أثناء عملية الإبداع الشعري”(21)
وبتقديرنا: إن القيمة الجمالية للجملة الشعرية تكتسبها من حنكة الشاعر،ومراميه الفنية،وحساسيته الجمالية،وقدرته على توليف الكلمات،والجمع فيما بينها في قالب فني إبداعي مخصوص،ولهذا يقال عن الشعر أنه:” الفن اللغوي الذي يعتد أولاً وقبل كل شيء بمستويات الانحراف في الإسناد”(22)
وبمقدار بداعة الانحراف،وعمق المسافة الفنية بين المسند والمسن إليه بمقدار ما يستثير النسق الحساسية الجمالية، ويخلق المتعة الفنية. ولهذا نلحظ سموقاً فنياً في تشكيل الجملة عند شعراء الحداثة؛وهذا التشكيل متنوع بتنوع الأساليب، والطرائق الفنية؛وعلى هذا تختلف الأساليب، والقيم الجمالية من شاعر لشاعر،ومن تجربة إلى أخرى؛ وتبعاً لهذا الاختلاف يتفاوت الشعراء في منزلتهم الشعرية، ومهارتهم الإبداعية؛وللتدليل على التوهج الفني في تشكيل الجملة الشعرية نأخذ المقطع الشعري التالي لعبد الكريم الناعم:
” يا إلهي ها أنا ما بين جرحي وانزلاقات الضفافِ
أدفعُ الحلمَ إلى آخرِ منفى من دياجير المنافي
ليس من يدفع عني سطوةَ الآتي
ولا قلبي- على جرعته- يقطفُ شيئاً من عناقيدِ السلاف”(23).
هنا، نلحظ الترسيم الجمالي في ربط الكلمات،والتوليف فيما بينها بقالب إبداعي فني مثير،كما في قوله:( انزلاقات الضفاف- دياجيرِ المنافي- عناقيدِ السلاف)؛ وعلى الرغم من وضوح المقصدية،وبداهة الإسناد لبعض العلائق اللغوية:ك( عناقيد السلاف) إلا أن الشاعر في النسق الشعري السابق استطاع أن يستثير هذه الإسنادات رغم بداهة بعضها،للتدليل بعمق على حرقته العاطفية، وتوقه الصوفي لدرجة تمثل الحالة الصوفية بكل مؤثراتها، وفواعلها النفسية،ونبضها الروحي الدافق؛وتأسيساً على هذا، يبدو لنا: أن القيمة الجمالية لا تستحوذها الجمل الشعرية إلا من بداعة إسنادها، وإثارتها الجمالية للنسق الشعري الذي يحتويها.
وتأسيساً على هذا، تنبع القيمة الجمالية للجملة من خصوبة الرؤية،وجمالية الإحساس الشعري،وترجمته فنياً، كما في المقطع الشعري التالي لمحمد الماغوط:
” لكنني سأعود ذات ليلهْ
ومن غلاصمي
يغورُ دمُ النرجسِ والياسمين
لأنعقَ كالغرابِ بين نهديكِ الرماديين
بين نهديكِ المقطوعينِ خارجَ الوطن
وأرسلُ نظراتي عبر الغرفةِ
وعبر جسدكِ المغطى بالحساء
والشاي.
سأدوسُ بقدمي رنينكِ المتواصلَ
وأثداءكِ المبعثرة على القمة”(24).
إن القارئ،هنا، يحس بالإشعاعات الجمالية التي تبثها الجمل، عبر دينامية الصورة:( يغور دمُ النرجسِ والياسمين- نهديك الرماديين- جسدك المغطى بالحساء والشاي)؛وهذه القوة الإشعاعية للجملة تنبع إذاً من رغبة الشاعر الفائقة في تحريك الأشياء، بالعبثية، واللامبالاة؛ ارتداداً داخلياً لتأزمه النفسي،وقلقه الوجودي؛ وعلى هذا، تؤدي الجملة فاعليتها التأثيرية في النص من خلال عمق المؤثرات الجمالية،وما أثارته من إيحاء،وتفاعل نصي يدلل على البعد الإيحائي للكلمة في تحريك الصورة وإثارتها جمالياً.
وقد يلجأ بعض الشعراء المحنكين إلى الترسيم التقفوي،والتكلف في زخرفة الجمل والقوافي الداخلية، على شاكلة المقطع الشعري التالي لفايز خضور:
” نعيمكِ، هذا الجحيمُ المداجي،
تربع في سرةِ النبعِ،
لظَّاه… يا ليتهُ نشَّفهْ!!
فعشقي صدوقُ المناراتِ، ما عكَّرتْ صفوَ لآلائهِ الشعوذات،ولا موَّهت عريَّهُ الزخرفهْ
أنا راحلٌ عنكِ صوبَ هلالٍ جليلٍ،
وملءَ كياني(أحبكِ) مدَّ الزمانِ
وأرجو لأيامه المقبلاتِ، هناءةً بحبوحةَ العزِّ و الهفهفهْ!!
يليقُ بكِ العِزُّ يا مُتْرَفَهْ..!!”(25)
بهذه الحساسية الجمالية، أو التحنيك الجمالي في ترسيم القوافي المتواترة، يؤسس الشاعر جمله الشعرية، لتبدو أكثر إغراءً؛ وجذباً للمتلقي من حيث القوة،والانسجام، والتوحد الشعوري، والتناغم الصوتي؛ كما في القوافي التالية:( نشَّفه=الزخرفه= الهفهفه= مترفه)؛ولعل تفعيل الشاعر لهذه النهايات التقفوية المنسجمة؛ يؤكد تكلفه في الوقوف على القافية المؤثرة التي تموسق الشعور الداخلي، بإيقاع يتوحد مع شعوره الداخلي؛ في التعبير عن اللهفة الشديدة للمحبوبة،ولحظاتها الغرامية المرهفة،وهذا يفرض على القصيدة جواً من التلاحم، أو التناغم بين الجملة؛ وما تشع به من إيحاءات،والكلمة وما تحفل به من إشراقات، وومضات جمالية مكتشفة داخل النسق الشعري المتموضعة فيه.
وتأسيساً على هذا؛ فإن جمالية الجملة تتأتى من عنصر التشويق، والمباغتة التي تولدها في نسقها،والمداليل المكثفة التي تكتظ بها،وتغذي بها أحاسيس المتلقي،وذاكرته الإبداعية،وللتدليل على القيمة الجمالية المثلى التي تحققها الجملة في نسقها نأخذ المقطع الشعري التالي لعلي جعفر العلاق:
” وفجأةً تلمعُ في عظامهِ سحابهْ
بالغةُ الحنوِّ
أيُّ نشوةٍ هذي؟!
وأيُّ محنةٍ
تلكَ:- يديكِ،
كي نطيرْ
نمضي إلى آخرِ ما في الروحِ
من كآبة”(26).
هنا، تبرز الكلمات في الجملة بروزاً إبداعياً واضحاً؛وهذا البروز مرده بلاغة الجملة في نسقها، وبلاغة الكلمة في تجاذبها الصوتي في إطار تجاورها، وتلاحمها في الأنساق الماثلة فيها،كما في التشكيل التالي:( بالغة الحنو) التي أدت دورها الفاعل بالتحامها النسقي من جهة،وبروزها الدلالي البليغ من جهة ثانية؛ ثم الحراك الصوتي الماثل في بنية القافية:[ سحابة= كآبة]؛وكذلك التآلف الصوتي عبر تنوين الرفع والكسر؛ حيث أدى إلى نوسة:(صوتية- إيقاعية) زادت من إثارة الجملة،وتناغمها الصوتي،ورنينها المؤثر؛ وهذا دليل أن جاذبية الجملة الشعرية؛ تتحقق من خلال قوة الأثر الذي تخلفه في موضعها؛سواء أكان هذا الأثر صوتياً؛ أم دلالياً، أم إيقاعياً، أم لغوياً؛ المهم أن ينعكس هذا الأثر على السياق،وتبرز ملامح هذا التأثير من خلال تفكيك الجملة؛ وإدراك مؤثراتها، وعناصرها الفاعلة.
وصفوة القول:
إن جمالية الجملة – في بنية القصيدة الحداثية- تتحدد شعريتها بتلاحمها في السياق الشعري،ومدى ما تحمله من دلالات، ورؤى، ومؤثرات إبداعية ، تزيدها قوة وفاعلية كلما تعمقت مؤثراتها وموحياتها ضمن النسق المشكلة فيه؛ولهذا ، فإن قيمة الجملة شعرياً ترتقي بارتقاء النسق المضمنة فيه،والتحامها بجوهر الرؤية النصية، وبلاغتها الموحية في تفعيلها؛وهذا ما يضمن ارتقاء أسهمها الشعرية في القصيدة على المستويات كافة.
جمالية المقطع الشعري:
ونقصد ب( جمالية المقطع الشعري): القيمة الجمالية التي يستحوذها المقطع الشعري في نسق القصيدة،من حيث البلاغة، والقوة، والفاعلية،وعمق التأثير؛وهذا يعني أن جمالية المقطع تكمن في رؤيته،ومكوناته اللغوية،ومثيراته الفنية،وما يتبعه من مقاطع متلاحمة على مستوى الرؤية الكلية للقصيدة.
وما ينبغي التأكيد عليه: أن قيمة المقطع جمالياً تتفاوت من قصيدة إلى قصيدة أخرى،وأحياناً من مقطع إلى آخر ضمن القصيدة الواحدة؛وهذا لا يعني تدني الشعرية عند الشاعر بقدر ما يعني أن للشعر توهجات إبداعية لا ينكرها كل من يدرك طبيعة العملية الإبداعية؛ فقد لا تتكرر الحالة الإبداعية مرة أخرى على هذه النفثة الشعورية الحارة، والقوة التعبيرية الدافقة؛ مما يجعل الشاعر يوفق في بعض المقاطع على حساب بعضها الآخر؛وهذا يدلل على أن الحالة الإبداعية وقوة مردودها الرؤيوي والشعوري هي التي تحدد درجة سموق الرؤية، وارتفاع درجة الشعرية في بعض المقاطع على حساب بعضها الآخر؛ وربما تحدد شعرية القصيدة بكليتها، وعمق التجربة الإبداعية برمتها؛ فالقوة الرؤيوية؛ وتوهج الحالة الإبداعية تحدد عمق التجربة، وتطورها من مرحلة إلى أخرى،ومن قصيدة لقصيدة أخرى؛ولعل لجوء الشاعر العربي الحديث إلى التشكيل المقطعي في بنية قصيدته المعاصرة هو لجوء فني له مبرراته الإبداعية،ومسوغاته الفنية؛ فالشاعر في التشكيل المقطعي للقصيدة يقسم أفكاره،ورؤاه، إلى جرعات؛كل جرعة قد تمثل حالة شعورية إبداعية مختلفة عن الجرعة الأخرى، أو الزفرة الإبداعية الأخرى، وهذا يؤكد مسار التنوع والاختلاف في اللحظات الإبداعية لدى المبدع الواحد، حتى ضمن مسار القصيدة الواحدة،وربما المقطع الواحد؛ولا نبالغ في قولنا: إن الكثير من شعراء الحداثة اعتمدوا التشكيل المقطعي في قصائدهم رغبة في بث الرؤية الشعرية على جرعات أو دفعات مبثوثة تبعاً لزخم الحالة الشعورية، وكثافة الرؤى المتخيلة في أذهانهم؛وقد سبقنا إلى هذا المنظور الناقدة السورية الفذة خلود ترمانيني، إذ تقول:
” إن معظم قصائد الشعر العربي الحديث تبنى على أساس مقطعي؛ولذلك؛ يحتل المقطع الشعري في شعر التفعيلة أهمية واسعة، فهو يطول أو يقصر،ويتكرر أو يتحدد، ويميل إلى البساطة، أو التعقيد،وفقاً لما تقتضيه حركة السياق الشعري،والموقف الشعوري. ومن هنا؛ فإن تشكيل المقاطع يرتبط بأسباب نفسية، ودلالية، وفنية تنعكس على المسار الإيقاعي، وتلبي حاجاته في الامتداد، والتطاول، والانحسار، والتكثيف،وفقاً لمكونات النص الدلالية، وتفاعلاته الإبداعية”(27).
وتأسيساً على هذا، يمكن أن يكون المقطع ذا شاعرية مرهفة، بمفردة، أو معزولاً عن سياق القصيدة؛ إذا ما كانت اللحظة الشعرية، أو الشعورية متوهجة في ذاته لحظة تشكيل المقطع؛ لأن القصيدة الشعرية هي حالات شعورية عديدة؛ متفاوتة في الحرارة،والعاطفة، والقوة التعبيرية،والمحفزات الداخلية؛ولهذا؛ يبدو الكثير من الشعراء مميزين في قصائدهم الشعرية في بعض المقاطع على حساب بعضها الآخر؛ وكأن الشاعر تجاوز قدراته الذاتية الخاصة، وكفاءته المعهودة إلى آفاق إبداعية متوهجة بفعل الداخل المتوهج، وحراكه النفسي المتحفز؛وللتدليل على فاعلية التوهج المقطعي جمالياً نأخذ المقطع الشعري التالي لنزار قباني:
“خبِّئني في خلجانِ يديكَ فإن الريحَ شماليهْ
خبِّئني في أصدافِ البحرِ.. وفي الأعشابِ المائيهْ
خبِّئني في يدكَ اليمنى.. خبِّئني في يدكَ اليسرى
لن أطلبَ منكَ الحريَّهْ,
أنتَ السجانُ.. وأنتَ السجنُ.. وأنتِ قيودي الذهبيهْ”(28).
هنا، يلحظ القارئ أن مصدر خصوبة المقطع جمالياً؛ تتبدى في هذا التلاحم الفني العجيب؛ بين الكلمات والرشاقة الإيقاعية المموسقة التي تنبعث من صدى الكلمات في نسق الجملة؛ إمَّا عبر تجاورها الفني الموحي،والتحامها الصوتي المموسق، وإمَّا عبر التمازج الصوتي الماثل في الصيغ الصرفية، والحركات الإعرابية المرتكزة على تناغم حركة القوافي،وما أشاعته من أصداء صوتية، مموسقة(شماليه= المائيه= الحريه= الذهبيه)؛ ناهيك عن التكرار المموسق الذي أدى إلى تنظيم الدفقة شعورياً وجمالياً؛ كتكرار الفعل( خبئني)(4مرات)؛وضمير المخاطب( أنتَ)(3مرات)؛ وهذا أسهم في ارتقاء المقطع جمالياً عبر التمازج الصوتي، والالتحام الشعوري الدافق الذي استمر صداه من أول كلمة في المقطع، إلى آخر كلمة فيه، دلالة على شعرية الالتحام، والتكامل الفني. وهذا يدلنا أيضاً أن قيمة المقطع جمالياً لا تتحدد بطول المقطع أو قصره؛وإنما على التلاحم الفني بين المد الصوتي للكلمات،والموقف الوجداني المقطع شعريته،ويسمو فنياً.
والملاحظ أن الكثير من المقاطع الشعرية –عند شعراء الحداثة- تستحوذ على قدرة فنية عالية تتجاوز معطيات القصيدة ذاتها، مما يدلل على أن بعض المقاطع الشعرية؛ تبدو متوهجة أكثر من بعضها الآخر؛
لدرجة أن الكثير من المقاطع الشعرية ترفع سوية القصيدة؛وترتقي بها فنياً؛وللتدليل على ذلك نأخذ المقطعين الشعريين التاليين من قصيدة (الغائب) لشوقي بزيع لنميز سموق أحدهما على الآخر؛من حيث العمق، والإيحاء، والتأثير،والفاعلية؛ لكن هذا لا يعني تدني أحد المقطعين إلى مرتبة الهشاشة والدونية؛ وهذا ما يبعد عن شاعرنا جملة وتفصيلاً؛ كما في قول الشاعر:
” تأخرتَ عن موعدِ الحبِّ يا سيدي
وانتظرتُ اخضرارَ خطاكِ البطيئةِ
جيلاً فجيلاً
وناديتُ في قفرِ صمتكِ حتى تهرَّأ صوتي
وغطَّى ذراعيَّ دودُ البلى
وتلاشتْ عظامي نحولا
فرُشَّ على وحشتي ماءَ عينيكَ،
ذَهِّب بحورِ انكسارك جسمي العليلا
وعدْ لي طيفاً على غرَّةِ الصبحِ
أو فكرةً
أو قتيلا.
*******
تطفو النساءُ على جمرِ أشواقهنَّ
وأبقى أنا المرأةُ العاشقة
مضاعفةً بظلالي
وبيضاءَ من شدة الحبِّ
كأني زيتونةٌ لا تضيءُ
ولا يشربُ الطينُ زيتي
حيةٌ غيرَ أني بدونِ حياةٍ
وميتةٌ دونَ موتِ
وبين الحقيقةِ والحلمِ
أسمعُ قرعاً على خشبِ القلبِ
أسمعُ ريحاً تنوحُ على سطحِ بيتي
هل سيأتي حبيبي إذن؟!!
هل سيأتي حبيبي إذن؟!!
هل سيأتي؟!!”(29).
إن من يدقق في الصور ومجموعة البؤر الدلالية،والمفرزات الإيحائية التي تكتظ في المقطعين:(الأول والثاني) سرعان ما يلحظ درجة سمو المقطع الأول على الثاني جمالياً؛ من حيث الرؤية، والتناغم، والانسجام، والحساسية، والعمق،والنبض العاطفي،؛ كما في القوافي التالية:
“نحولا= العليلا= قتيلا”؛وما أثارته الصور من خصوبة،وشاعرية،وإيحاء:( تهرَّأ صوتي= تلاشتْ نحولا=رشَّ على وحشتي= ماء عينيك= بحور انكسارك= غرة الصبحِ)؛وهذه الأنساق الشعرية لا تنم فقط على حساسية جمالية،وقدرة إيحائية عالية؛ وإنما على قوة عاطفة؛ وتكثيف دلالي، ونبض جمالي، ينسجم مع بؤرة العنوان؛ ويجسد مدلوله بعمق. في حين جاء المقطع الثاني فاتراً عاطفياً أو أن الشاعر غيَّب تماماً(الانفعال العاطفي) في صوغ المقطع الثاني؛ لهذا، فقدت أغلب الصور إشعاعها وحراكها ودفقها العاطفي؛وبدت الصورة مصطنعة جامدة خالية من الحراك العاطفي، والتوتر الشعوري الحساس؛ وهذا ما جعله يستخدم ضمير الغائب في البداية؛ليشي بهذا الإحساس الاغترابي؛ثم عاود الانتقال إلى ضمير المتكلم رغبة في استثارة النبض الشعوري الداخلي؛ وتحريكه من الداخل؛ لكن دون جدوى؛ لأن الصور قد فاضت بإيقاع الاصطناع،والنمطية الرومانسية الغنائية المقولبة أو المصطنعة؛ وهذا ما تبدى جلياً من خلال بداهة الصور التالية:[ تطفو النساء على جمرِ اشواقهن- مضاعفة بظلالي= كأني زيتونة لا تضيء= لا يشربُ الطينُ زيتي= حية غير أني بدون حياة- ميتة دون موت= خشب القلب]؛وهذه الصور رغم جمالية بعضها فقدت القدرة الجمالية على التعبير؛وبقيت تمس قشور المعنى، أو سطحية الدلالات؛دون أن تتغلغل إلى البؤر العميقة؛وهذا- بالطبع- أفقد المقطع حرارته العاطفية،وصوره الإبداعية الوهاجة؛ على نحو مالا تبدى لنا في المقطع الأول.
وهذا يقودنا على حقيقة شبه مؤكدة:
إن الإبداع درجات من الحرارة والتوهج الإبداعي؛والحساسية الجمالية،والتملي العاطفي، ولهذا؛ تتفاوت درجة جمالية كل مقطع؛ تبعاً لخصوصيته الفنية،وحرارته العاطفية،ونبضه الجمالي،وطبيعة الرؤية، أو الموقف الشعوري الذي يعبر عنه؛ وبمقدار وعي الشاعر بهذه الخصوصيات في أثناء تشكيل المقطع بمقدار ما يسمو المقطع،ويرتقي فنياً.
جمالية القصيدة:
ونقصد ب( جمالية القصيدة): جمالية البناء الشعري الذي يتضمن شعرية اللغة، والرؤية، والإيقاع، والموقف الشعوري الذي تثيره القصيدة؛ وبمقدار ما يتم التوليف بين هذه المقومات البنائية في تشكيل القصيدة بمقدار ما تحقق القصيدة خصوبتها الجمالية، وتكاملها الفني؛ وهذا يعني أن:”جمالية القصيدة لا تقتصر على نص طويل أو نص قصير؛ وإنما المهم هو تحقيق الانسجام بين ما يحتويه النص من مضامين،وما يتم تشكيله بطرق مناسبة لتلك المضامين؛ومن هنا؛ يجب أن يتمكن الشاعر من تقديم فكرته الشعرية تقديماً ملائماً سواء أكان الأمر يحتاج إلى صفحات طويلة، أم إلى صفحة واحدة”(30).
وما ينبغي ملاحظته أنه لا قيمة لطول القصيدة أو قصرها في الإبداع، والإثارة، واللذة الجمالية؛ المهم يكمن في الرؤية المتوهجة، واللغة الشعرية؛ والمخيلة الخلاقة؛ والإيقاع المتناغم مع النبض الشعوري أو الروحي للقصيدة،والهيكل الجمالي – البصري العام للقصيدة؛وطريقة توزيعه على بياض الصفحات. وهذا يدل على :”أنه يتم رصد النمط البنائي للنص الشعري ذهنياً قبل أن يتحقق فعلياً في الفضاء النصي،والشاعر يحقق على ورقهِ التشكيل الأمثل لما في ذهنه وفكره من أشكال وتنظيمات تنسجم مع السياق النفسي الإبداعي الذي تولده في أحضان القصيدة؛ فالصورة الذهنية للبناء هي التي توجه الشاعر إلى تحقيق ذلك التشكيل على أرض الواقع؛ إذ تتوزع القصيدة في أشكال منظمة يحددها العقل الواعي، والإحساس المبدع. ومن خلال الانسجام بين الصورة الذهنية التي تعشش في ذهن الشاعر،والصورة المتحققة في تشكيل النص،والصورة في فكر القارئ يتحقق الإيقاع على المستوى البنائي في النص الشعري الحديث”(31).
وبهذا التصور، لا نغالي إذ نقول: إن الشاعر المبدع حقاً هو الذي يختار الشكل اللغوي المناسب للمضمون أو الفكرة الشعرية المجسدة؛وهذا يتوقف على مدى حساسية الشاعر،وخبرته المعرفية،ونبضه الشعوري،وإحساسه الجمالي؛ بالأشياء من حوله؛ومدى قدراته على ترجمة هذا الإحساس جمالياُ في أثناء عملية التشكيل الشعري؛وللتدليل على فاعلية هذا التشكيل الجمالي نأخذ قصيدة( الجنوب) لجوزف حرب؛ فهذه القصيدة رغم قصرها إلا أنها تحمل دلالات خصبة،ورؤية إيحائية عميقة؛ كما في قوله:
” كلٌّ له بيتٌ إذا جاء الغروبْ
يعودُ حتى يُمْضِي الليلَ به
مهما بَعُدَ
فمنذ ألفي سنة
مضى إلى الحروب،
ولم يعد”(32).
إن القارئ لهذه القصيدة يدرك ترسيمها الفني،وبراعتها النسقية،وتناغمها الإيحائي، وانسجامها في لبنة تشكيلية متماسكة، ورؤية إيحائية خصبة؛ تدلل على واقع الجنوب اللبناني؛ الذي عانى من ويلات الحروب، وآلامها،ومصائبها ؛ما لا يطيق، ولهذا جاء قوله:[ فمنذ ألفي سنة مضى إلى الحروب ولم يعد]؛ دالاً بقوة على استمرارية هذا الواقع المؤلم،ومازالت عليه الحال حتى الواقع الراهن؛ وبهذا؛ تحقق القصيدة رؤيتها ومقصديتها باقتصاد لغوي بالغ،وإيحاء شاعري عميق؛ وهذا دليل أن طول القصيدة أو قصرها لا يشكل عائقاً أمام شعرية القصيدة؛ شريطة أن تمتلك مقوماتها الفنية، ورؤيتها المتكاملة.
ومن القصائد الشعرية الحديثة ما تحفل بهذا الانسجام والتناغم الجمالي بين الشكل اللغوي، وما تضخه القصيدة من رؤى وإيحاءات عميقة؛ كما في قصيدة( فاتحة الأغنية) لخالد أبوخالد؛ وفيها يقول:
” جسدي نهرُ العصافيرِ
ورمان المواويلِ.. ضفافي
يذهبُ الدمُ إلى الماءِ؟!!
وأحزاني إلى الغربةِ..
لا أفضي إلى البابِ.. ولا أبكي..
ومشواري عصيٌّ
إنهُ الرملُ- فلا أمي ستلقاني..
ولا البحرُ القصيُّ
لا ولا آتي إلى قلبي.. ولا تأتين في الرؤيا إليَّ
مدنٌ تلهثُ في الصهدِ
ولا وعدٌ.. لديَّ
فخذي وجهي.. إلى المدِّ.. خذيني..
وخذي أجنحتي الأولى إلى الشعر
خذي ليلي.. إلى الفجر
خذيني…
سفناً في جوهرِ الوقتِ إلى سرِّ المرافي”(33).
لاشك في أن القيمة الجمالية للقصيدة لا تتحدد بالمستوى اللغوي فحسب؛وإنما بكل ما يحقق لها هذه القيمة؛ولو كانت قيمة بصرية تجذب إليها المتلقي؛وتحثه على تلقيها بمتعة وإحساس جمالي؛وهنا؛ استطاع الشاعر أن يجسد المتعة الجمالية عبر دينامية الصورة؛والتلاعب في شكلها الإيحائي؛ وقلقلتها الشعورية، وعكس جزئياتها عبر الصورتين التاليتين:[ جسدي نهرُ العصافير= ورمانُ العصافيرِ ضفافي]؛ والملاحظ أن جمالية الصورتين ليست مقتصرة على تشكيلهما فحسب، وإنما على الفيوضات الشعورية، والاحساسات الاغترابية المأزومة التي تضخهما كلتا الصورتين في نسقهما الشعري من أسًى، وحرقة،واغتراب؛وهذا يتناغم مع الإيقاع البصري والرؤيوي لكلتا الصورتين؛وهذه الجمالية امتدت لتشكل قمة نضجها واكتمالها في قفلة الختام:[ خذيني سفناً في جوهر الوقت إلى سر المرافي]؛ فالشاعر ما أراد أن يعبر عن اغترابه إحساساً شعورياً فقط،وإنما فعلاً شعرياً واقعاً ترك أثره في خلجات روحه أولاً، وأصداء الكلمات وإيقاعها الثائر الملتزم على مر الزمن؛ثانياً،وهذا يدلل على أن اغترابه فعل شعوري مكرس للقضية الفلسطينية،وملتزم بها؛صموداً، وتضحية، وثباتاً في وجه التحديات إلى النهاية؛وهذا ما جعل القصيدة كتلة نصية متلاحمة،وفيوضات عاطفية شعورية مكثفة، ذات مصب واحد، لا تحيد عنه،وهو الاغتراب في سبيل نصر القضية؛ولاشيء سواه؛ وهذا يعني أن سر جمالية هذه القصيدة ينبع من تلاحم رؤاها،وتفاعل مؤثراتها، سواء أكان تلاحماً فنياً، أم تلاحماً دلالياً، أم انسجاماً بصرياً ينعكس على توزيع الأسطر بإيقاع بصري- هندسي محكم.
وبتقديرنا: إن لكل قصيدة جماليتها الخاصة بها؛وهذه القيمة الجمالية تولدها مثيرات(فنية- رؤيوية) مختلفة في شكلها وبروزها عن القيم الجمالية الأخرى؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قصيدة(قرار الصدى) لفايز خضور؛وفيها يقول:
” قتي….ي…..ي..ل
صريخٌ يصدَّعُ بوابة القلبِ
عكَّر قيلولةَ الوردِ
وانثالَ مؤتزراً بالنزيفْ: يُشَاطِئُ عشباً
تسلل من ضفةِ الحلمِ، رواح،رواحَ، وراحَ يدحرجُ
بوصلةَ الوقتِ، ينشدُ إغواءَ قارعةِ المستحيل,
ترى أينَ ثغرُ الصدى، كيفَ أمعنَ فيه الغرابُ، وأغمضَ
عنهُ الهديلْ؟!!
أيعرفُ درَّابةُ الليلِ نكهةَ لهجتهِ الزئبقيةِ؟!!
هل يعرفُ العابرونَ الخرافُ
ابتهاجَ الذئابِ لمرأى سواقي الدم السلسبيل؟!!
ترى ذاتَ قرنٍ قصيًّ عن الروح
هل يخجلُ” العارفون”
ويزالقُ أبهرهمْ ، بين أضيافهِ، بالحكاياتِ
كيفَ،وكيت،.. لماذا .. متى… أين؟!!
من كان ذاكَ الظلومُ الفعيلُ؟!!
ويبقى قرارُ الصدى هائماً في ثنايا المدى
لافحاً حلماتِ الجهاتِ السدى
عاجناً رملها بالسرابِ. الهدى
مبهماً مثلما ضاعَ وجهُ الشهيد الدليلْ!!
ويبقى نداءُ الردى سادراً يحتمي ب(قتيي…….ي..ي..لْ)!!”(34).
إن أول ما يلحظه القارئ على المستوى الجمالي، أو على مستوى تحفيز القيم الجمالية في القصيدة التشظي الصوتي أو البصري للفظة:(قتي…ي..ي..ل)؛وهذا التشظي يدلل على الارتداد الصوتي،والمد العميق إزاء كل حرف من حروف هذه الكلمة؛ ثم القوة الصوتية للكلمات،والأصداء المحركة لها؛وهي(ضريحٌ يصدع بوابة القلب،عكَّر قيلولةَ الورد)؛ وهذه القوة الدلالية أو الإيحائية في تظليل الصور بالإيحاءات والكلمات المتتابعة، عمقت فاعلية الرؤية، واستشاطت مدلولاتها؛و عمقت من فاعلية تبئير مركباتها الإسنادية.
والملاحظ – على المستوى الفني- التبئير اللغوي في التقاط التراكيب الإشكالية التي تترك مسافة شاسعة من الاستبطان والتأمل الجمالي؛وهي(بوابة القلب= عكَّر قيلولةَ الورد- يشاطئُ عشباً- ينشد إغواء قارعة المستحيل- أغمض عنه الهديل- نكهة لهجته الزئبقية- سواقي الدم السلسبيل]؛ وهذه القوة في اختيار النسق اللغوي المناسب ولَّد في القارئ لذة، ونشوة رؤيوية، لا محالة؛ جلها يعود إلى شعرية الرؤية،وعمق مقصودها،وعمق المعاناة المنبعثة من أصداء الكلمات، والعبارات،والصور الشعرية التالية:[ عاجناً رملها بالسراب الهدى= هائماً في ثنايا المدى= لافحاً حلمات الجهات السدى-وجه الشهيد الدليل]؛وهذا التكرار التتابعي لاسم الفاعل ولد أنموذجاً لغوياً ضاغطاً أسهم في تركيز الرؤية؛وتخليق أبعادها الجمالية؛ مما يدلل على أن شعرية القصيدة؛مبعثها توافر سبل جمالية عدة ، ابتداءً من التشكيل البصري للقصيدة في رسم الكلمات،وتقطيع حروفها،وانتهاءً بالقفلة الجمالية التي تعاود البدء في حركة انتقالية نوعية تزيد من إيقاعها التلاحمي، وقرارها البؤري الدلالي المتكامل؛ أو المركز؛وهو الدلالة على الشهيد،والصدى الذي يخلفه وراءه من عظمة، وبطولة، ومجد:(ويبقى نداء الردى سادراً يحتمي ب( قتيي…………..ي…يل)!!
وهذا يدلنا على أن لكل قصيدة خصوصيتها الفنية،وطاقتها الإبداعية، ومحفزاتها الجمالية التي تؤسس بؤرها الدلالية على شعرنة اللغة، بما في ذلك عمق الرؤية،ومركزية التجربة. ولهذا؛ فإن جمالية القصيدة؛ أو مجموعة القيم الجمالية التي تفرزها القصائد الحداثية تنبع من شعرية اللغة،وجمالية الرؤية،وسحرها الإيقاعي المموسق،والنبض الشعوري الدافق للذات الشاعرة، ومستوى حساسية الرؤية،ونقلها للقارئ بقالب جمالي آسر.
5- جمالية الرؤيا:
ونقصد ب( جمالية الرؤيا): جمالية المنظور الشعري،وعمق المحتوى الذي تتضمنه القصيدة من حيث الشمولية،والتخييل،والحدس الجمالي في توليف الأشياء؛والربط فيما بينها؛ بخصوبة إبداعية،ومنظور رؤيوي متجدد للعالم والكون وماهية الوجود،وحركته الكونية.وقد عرّف الدكتور صلاح فضل مصطلح (الرؤيا) –كما لاحظه- عند علماء األألسنية بقوله:” هو تضافر مجموعة من التقنيات التعبيرية، المتصلة ببعض المستويات اللغوية خاصة النحوية،وطرق الترميز الشعري المعتمد على القناع والأمثولة الكلية،وأنواع الصور،وأنساق تشكيلاتها، تضافر كل تلك العوامل، لتكوين منظور متماسك في النص؛ بما يجعل ” الرؤيا” هي العنصر المهيمن على إجراءاتها التعبيرية،والموجه لاستراتيجيتها الدلالية”(35).
ونستشف من هذا القول: إن الرؤيا هي كل ما يحرك النص الشعري، من موجهات دلالية وإيقاعية،وصوتية،ورؤيوية تتحكم في سيرورة المنتج الشعري من قريب أو بعيد؛وهذا دليل أن “الرؤيا تتوسل تقنيات الصورة الحديثة لتفجر دلالاتها الجمالية اللامتناهية عبر عملية التلقي الفعال”(36).
ولأن ” الرؤيا” هي في معناها شمولية التجربة، أو شمولية المنظور الكلي الذي أنتجته القصيدة بكل معداتها الأسلوبية فهذا يؤكد أهميتها في كشف خصوبة القصيدة،وعمق منظورها الفني؛وتأكيداً على هذا؛ نلحظ أن أغلب شعراء الحداثة الذين فلسفوا الجدليات الوجودية قد طرحوا الكثير من الأسئلة الجدلية الوجودية كانوا شعراء رؤيويين بامتياز؛ك( أدونيس- وفايز خضور- ونزيه أبو عفش- وجوزف حرب،ومحمد علي شمس الدين- وشوقي بزيع- وحميد سعيد- وعلي جعفر العلاق- وغسان مطر-ومنصف الوهايبي،وغيرهم. وللتدليل على فاعلية الرؤيا ومظهر إثارتها التحريضية، نأخذ المقتطف الشعري التالي ل (نزيه أبو عفش):
” ياربِّ.. أعدني إلى رحمِ أمي لأتدفأ بظلامِ أحشائها
وأرضع أصابعي تحت دقاتِ قلبها الزاهدِ الكريمْ
أعدني إلى ماءِ حنانها القدوس
حيث الشرنقةُ أضوأ من البحرِ
والسكينةُ أبلغُ من الموسيقى،
يا ربَّ، أعدني إلى الرحمْ”(37)
هنا؛ يؤسس الشاعر قيمه الجمالية على عمق الرؤيا، ومحفزاتها الفنية؛ فالشاعر يناجي الذات الإلهية عسى ولعله يعود إلى خليقته الأولى إلى مكانه الدافئ البريء الذي خرج منه وهو(الرحم) إلى طينته الوجودية الصافية؛ حيث الطيبة، والنقاوة، والطهر، والأمان؛ في حين أن العالم كله من حوله دنس بالخطيئة، والغي، والضلال؛وشتان ما بين الطهارة والجمال،ومابين الغي والضلال؛ ولهذا، جاءت صرخته الاغترابية مبنية على عمق الرؤية،والإحساس الجمالي بالأشياء ؛ حيث كل شيء جميل يبشر بالجمال،وما أجمل براءة الرحم،وصفاء الوجود؛وما حنين الشاعر بالعودة إليه إلا صرخة وجودية اغترابية دللت على شعرية الرؤية، وعمق الموقف الوجودي الذي يرمي إليه الشاعر؛ولاسيما أن الشاعر يرمي إلى خلق الرؤية الإشكالية،وإبراز جدلياتها الوجودية المصطرعة؛وهذا يدلنا على أن القيمة الجمالية التي تثيرها الرؤيا الشعرية الحقيقية تنبع من القدرة على الدخول عمق الأشياء والكشف الجمالي -الرؤيوي عنها.
ومن الشعراء من يدرك أن الشاعر الرؤيوي هو القادر على التجاوز والتغيير؛وهذه الرؤيا ليست أمراً مجانياً متاحاً للجميع؛ حسب رأي الشاعر المبدع نذير العظمة-، إذ يقول:” الرؤيا ليست أمراً مجانياً متاحاً للجميع، وإنما للخاصة الخاصة .. إن فحول الشعراء هم الذين يتمتعون بالقدرة على الرؤيا، التي تتضمن الفكر الجديد والصورة الجديدة”(38).
والشاعر الرؤيوي الفذ هو القادر على استشراف المستقبل، بآفاق تأملية مفتوحة،وحس شاعري عظيم خاصة عندما يمتلك الشاعر القدرة العالية على الكشف والاستدلال والخلق الفني الجديد؛ومثالنا على ذلك الشاعر أدونيس الذي يعد ذخيرة فنية إبداعية نشطة في الكشف والابتكار ومراودة الجدليات والرؤى المستعصية،مثالنا على ذلك قوله:
” هربت مدينتنا
ماذا أنا؟!!
أسنبلةٌ تبكي لقبَّرةٍ ماتت وراءَ الثلجِ والبردِ
هربتْ مدينتنا
فرأيتُ كيفَ تحولت قدمي نهراً يطوفُ دماً
و مراكباً تنأى وتتسعُ
وجهي يلملمني ويشعلني
والرفضُ أبعادٌ تشتتني
فأرى دمي
وأرى وراء دمي
موتي يحاورني ويتبعني”(39).
إن قارئ هذه القصيدة لا يكاد يلتقط دلالة محددة، أو رؤية اغترابية معينة، يقف عليها؛ نظراً إلى عمق المنظور الشعري، وكثافة الرؤى، والمرامي الاغترابية الجريحة التي تشي بها؛ فنجد في شرايين الكلمات كثافة الدلالات الزمكانية الموغلة في قلقلة الرؤى،والعبث بالأشياء لدرجة تدلل على تشظي معالمها ودلالاتها إلى أكثر من رؤية، ومنظور شعري؛ منها: هروب الأمكنة(هربت مدينتنا)،واغتراب الذات،والتساؤل الوجودي عن عالمها:(ماذا أنا؟!! أسنبلةٌ تبكي لقبرة ماتت وراء الثلج والبرد)،وتشويه الأشياء بإيقاع سريالي عبثي يضج بالشكوى والاغتراب والأنين(وجهي يلملمني ويشعلني) والاغتراب النفسي إزاء هاجس الموت؛وما يحمله من أبعاد رؤيوية كابوسية مرعبة( موتي يحاورني ويتبعني)؛ إذاً؛ تكمن جمالية(الرؤيا) من خلال تعدد المنظورات المتعلقة بها؛ أي تكمن في تشظي الرؤى، واكتظاظها بالمداليل،وتشعب الدلالات وتلاشيها إلى درجة كبيرة؛ وهذا يدلل على أن شعرية (الرؤيا)، تبدو في تعدد منظوراتها، وكثافة رؤاها،وموحياتها الرؤيوية الوجودية المكثفة. وتأسيساً على هذا نحكم على القيمة الجمالية التي تولدها الرؤيا بمقدار قدرة الشاعر على النفاذ إلى باطن الأشياء،واستشفاف أسرار الواقع، والحياة، والوجود؛والشاعر الفذ هو القادر دوماً على اختراق ما هو مألوف في الواقع اليومي إلى ما هو مبتكر ولا مألوف؛وبهذا المعنى يقول الناقد(محمد إسماعيل دندي):” الرؤيا بمعنى الكشف والحدس والنفاذ إلى أعماق الواقع وأسراره؛ بحيث تكون الرؤية مظهراً من مظاهر الكشف؛ الرؤيا بمعنى تصور المستقبل واستشرافه والتنبؤ يه؛ وبهذا تعبر الرؤيا عن وعي حاد باللحظة الراهنة، الرؤيا بمعنى من المعاني هي وجهة نظر في الحياة؛ وهنا ؛تلعب الرؤيا دوراً مهماً في تقديم موقف الشاعر وفلسفته”(40).
ومما تقدم، يتضح لنا أن الشاعر الرؤيوي الفذ هو الذي يمتلك أدواته الفنية الخلاقة،ورؤاه العميقة،ومنظوراته الرؤيوية المتجددة،ومؤثراته المحفزة لتلقي النص الشعري تلقياً جمالياً فاعلاً؛ومثالنا على ذلك المقطع الشعري التالي لعبد القادر الحصني:
” بدأ الحبُّ غريباً
وغريباً سيعودُ الحبُّ……….. ما بالي حزين
باخعُ النفسِ على آثارهم، أو ذاهبُ النفس عليهم حسرات؟!!
ولماذا كلما غبَّتْ كرياتُ دمي من عبقِ الشروقِ قاباً
وبحوراً
وصلاة
عصفَ الشوقُ فناحَ القصبُ اليابسْ
وانثالتْ أغاني القُبَّراتْ؟!!
آسرُ هذا الحنانْ؟!!
أم أنا جدُّ ولوعٍ بالتفاصيلِ التي عتَّقها مرُّ الزمان؟!!”(41).
إن القدرة أو الفاعلية على الاستجلاء الفني هي ما تمنح الشاعر خصوصية الرؤيا،وعمق التجربة؛والشاعر هنا، لم يكن شاعراً رؤيوياً متعدد الرؤى،والمسالك الدلالية على نحو ما لاحظناه عند الخضور والعفش؛وإنما كان شاعراً رؤيوياً بامتياز من خلال امتلاكه القدرة على الاستجلاء الفني ؛والاستيحاء الأسلوبي للأنساق الجمالية:[ عصف الشوق= غبت كريات دمي= عبق الشوق= ناح القصب اليابس]؛والملاحظ هنا؛ أن القدرة الجمالية على قلقلة النسق ،وإثارة جماليته تخول الشاعر امتلاك شرائط التعبير الفني الجمالي بما يحقق للنص قوة الدلالة، وثراء المداليل الشعرية،والشاعر،هنا، ارتقى بدلالات الأنساق الغزلية بما يدلل على نزعته الصوفية،وبعده الرؤيوي العميق في التصوف، نظراً إلى حساسيته الجمالية المرهفة، وروحه المشبعة توقاُ، وولهاً، وصبابة.
7) جمالية التشكيل اللغوي النصي العام
ونقصد ب( جمالية التشكيل اللغوي النصي العام) جمالية التمظهرات اللغوية التي تنبني عليها القصيدة؛ من حيث الجدة، والدهشة، والابتكار،والقدرة التعبيرية على توجيه الصور، والأنساق التعبيرية بما يخدم الرؤية،ويقدم فحوى الموضوع، أو الموقف بحساسية جمالية عالية،وطاقة إبداعية خلاقة.
ومحصلة القول: إن القوة الجمالية لأية قصيدة تكمن في حساسية اللغة ؛ فهي الطاقة الجذابة التي تجعل النص متحولاً في شعريته؛ومتحولاً في إيحاءاته،وإيقاعاته الداخلية؛ومن هنا؛ أمكن القول: إن اللغة سلاح المبدع في الإثارة والتحفيز الجمالي. وهذه اللغة لتحقق جمالها وألقها الفني لابد لها من رؤية عميقة،وخصوصية إبداعية نادرة في تشكيلها؛ خاصة إذا أدركنا أن:” الرؤية الشعرية هي الجوهر الذي يحرك روح الشعر،ويجلو تضاريسه؛ فالصور، والرموز، وطرائق تشكلها في تنافرات، وائتلافات، وتناقضات، إنما هي أجزاء أو مستويات في البنية الكلية التي يطلق عليها بعضهم بكلية النص،والتي لا تتشكل إلا من خلال اندماج تلك المستويات جميعاً في كل يتجانس حتى في حالة اختلافه؛ولا يتجانس إلا من خلال نظام خاص يعمل على دمجه؛ وهذا النظام هو الذي يميز مبدعاً عن آخره”(42).
وفي هذا السياق،نرى ضرورة تلاحم الرؤية،وخصوبة اللغة، لتحقق القصيدة إثارتها الجمالية عبر جسدها اللغوي؛ولهذا، نعد الرؤية جوهر القصيدة، ونقطة التلاقي، والتجاذب المحوري في إثارة اللغة الشعرية؛وهذا ما حققته القصيدة التالية لعلي جعفر العلاق:
” كلما اندلعت شرارةٌ بين غيمتين
فاحتْ أمطاركِ على قلبي،
وتصاعدَ من جسدينا دخانُ القصائدِ
ورائحةُ الخيول…………..
قدماكِ تنهمرانِ على التراب الكالحِ
فتجعلانِ مسائي طرياً
كقلوبِ العصافيرِ
وشهياً كفراشِ امرأة..
أيتها الأميرةُ، المنبثقةُ من ماءِ النومِ تواً
ها أنا مقبلٌ بأمطاري،
فهيئي حنَّاءكِ
وجمر المرتفعاتْ
وأضيئي بقناديلكِ وردةَ الينابيع”(43).
إن هذه القصيدة تستحث قيمها الجمالية، من بكارة ما تضخه من تشكيلات، وإيحاءات شعرية تجري ممزوجة بدماء الحس،وحبر الجمال؛ عبر النمنمات التشكيلية التالية:( فاحت أمطارك على قلبي- قدماكِ تنهمرانِ على التراب الكالحِ= تصاعد من جسدينا دخان القصائد ورائحة الخيول)؛والملاحظ- على مستوى تحفيز القيم الجمالية في الجسد النصي اللغوي للقصيدة- أن كل تشكيل لغوي يمثل ترسيمة لغوية جذابة في التعبير عن حالة الوجد، والتوق العاطفي؛ بما في ذلك رسم مفاتن الأنثى الحسية والروحية؛ مما يحقق لها خصوبة المدلول،وجاذبية المداليل. وهذا الأمر ينسحب على تشكيلات القصيدة برمتها دون استثناء؛ مما يؤكد شعرية التشكيل في منحاه اللغوي العام الذي تنبني عليه القصيدة في حراكها الرؤيوي المثير، وتناغمها اللغوي المتلاحم مع محرق الدلالة، وجوهر الرؤية من الصميم.
ومن الشعراء من يتفنن في خلق الإثارة الجمالية في تشكيلاته اللغوية على المستوى النصي العام؛ مدركاً أن منبع الإثارة تبدأ من تشعير اللغة،وتنتهي كذلك في حقل اللغة ذاتها؛ بفواعلها النصية المتداخلة من أصوات،وإيقاع،وحركة،وهي جميعها بواعث دينامية محركة للشعرية، مصدرها بنية اللغة ذاتها؛وهذا ما نلحظه عند الشاعر علي الجندي في المقطع الشعري التالي:
“ولحتِ كأنكِ الطيفُ الربيعيُّ
على وهجِ الصباحِ تلوحين
ببسمةٍ حزنى،توسعُ لي طريقَ الشوقِ
تفتحُ دربي النشوان فوقَ مدارجِ الأفقِ
رأيتكِ آخرَ النظراتِ مثل غمامةِ العبق
………………….
وها أنذا بلا زغبٍ على جنحي،
بلا دفءٍ هنا، إني بلا زيتٍ على جرحي
أمدد طيفكِ الضوئيَّ جنبي
كلما آويتُ جسمي
في سريرِ السهدِ، والأشواقِ، والوحدةْ.
أحاولُ أحتمي بظلالهِ الشقراء،
لكني، أزيدُ حنينه المشبوبَ، أسلمهُ إلى الرعدةْ”(43).
إن قارئ سلسلة التشكيلات اللغوية التالية:( كأنكِ الطيفَ الربيعيّ- وهج الصباح- بسمة حزنى- توسعُ لي طريقَ الشوق- تفتحُ دربي النشوان- مدارج الأفق- غمامة العبق- طيفكِ الضوئي- ظلاله الشقراء – حنينه المشبوب)؛ يدرك تماماً أن قائلها شاعر حساس مبدع في حسه اللغوي، وأداته الشعرية؛ويدرك أيضاً أن منبع إثارتها يأتي من نسقها التجاذبي (اللامتوقع) بإسناد صفات جديدة غير متوقعة إلى موصوفات مألوفة أو معتادة؛وهو ما يولد لذة المفاجأة، ودهشة الإسناد، خاصة في قوله:( الطيف الربيعي= غمامة العبق= حنينه المشبوب= ظلاله الشقراء)؛ فكل تركيبة لغوية تمثل لمحة جمالية في حيز التناغم، والإدهاش النسقي؛وتأسيساً على هذا؛ يخلق كل نص شعري تشكيلاته اللغوية الآسرة التي بها يزدان ألقاً،ويزدهي خاصة في السياقات العاطفية( الغزلية) التي تتطلب صوراً مشبوبة بالعاطفة، والإحساس الروحي الدافق، وهذا ما ينطبق تماماً على النص الشعري السابق لعلي الجندي.
وعلى العموم، فإن القيم الجمالية التي تولدها بنية القصائد الحداثية بقدر اختلافها فإنها متوافقة في مؤثرين بارزين هما : سحر اللغة،وعمق الرؤية، والخصوصية الفنية في التعبير عنها، وكم من الشعراء قد ارتقوا سنام الشعرية بتوهجاتها الفنية اللائقة عبر قصيدة أو قصيدتين؛ امتلك الشاعر فيهما زمام الخيال الجامح واللغة الساحرة ذات الزخم الجمالي، والرؤيوي، والفني فكفت هذا الشاعر وكانت له بريقه في كل ما يكتب،ومكمن شهرته وتلقف إبداعه بتوق وإقدام.
أخيراً:إن مبحث إثارة المستوى الجمالي عند شعراء الحداثة لمبحث جد مثير؛ خاصة إذا أدركنا أن الكثير من الشعراء يتوقون إلى تحقيق القيمة العليا من التحفيز الجمالي في تشكيل نصوصهم الإبداعية، بكل ما تحمله من تجاوزات،ورؤى، ومبتكرات إسنادية أو تشكيلية تشد القارئ،وتجعله عاملاً متحولاً في إغناء النص، ومضاعفة مردوده الإبداعي.
وصفوة القول:
إن الحس الجمالي الذي يمتلكه الكثير من شعراء الحداثة، لايعود إلى المهارة اللغوية والحنكة التشكيلية فحسب،وإنما يقوم على تنامي الدلالات،والرؤى،والخبرات والمعارف المكتسبة،والمهارة في ترجمة هذا الإحساس جمالياً بنصوص إبداعية مبتكرة ورؤى مراوغة،وهذا ما يحسب لبعض التجارب الإبداعية المؤثرة في حركة الحداثة الشعرية.
الحواشي:
برتليمي ،جان،1970- بحث في علم الجمال، ص512.
المرجع نفسه، ص545.
شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة)، دار الأمل الجديدة، ط1، ص366.
حسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص207.
حيدر،صفوان،1998-تاريخ الفن التجريدي( في الأصول الثقافية للرسم التجريدي)؛ مجلة الفكر العربي، ع92، س(19)،ص225.
برتليمي،جان،1970-بحث في علم الجمال،ص544.
شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص328.
أبو ديب،كمال،1987- في الشعرية،مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط2، ص28.
مبروك،مراد عبد الرحمن،2006- النص الأسطوري والاتصال الأدبي عند حمزة شحاتة؛مج، علامات في النقد، ج 60، مج15، يونيو، ص733.
شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص278.
مبروك،مراد عبد الرحمن،2006- النص الأسطوري والاتصال الأدبي عند حمزة شحاتة، ص744-745.
المرجع نفسه، ص745.
بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، ج2/ ص473.
ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، إشراف: الدكتور أحمد زياد محبك، أطروحة جامعة حلب، ص72,
المرجع نفسه،ص72-73.
خير بك، كمال، 1986-حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر،دار الفكر، للطباعة والنشر، ط2، بيروت، ص148.
الجندي، علي،1967-الحمى الترابية، المكتب التجاري للطباعةوالنشر،بيروت،ط1،ص118.
خضور،فايز،2003- ديوان فايز خضور،وزارة الثقافية،ص666-667.
ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص71-72.
عبد المطلب،محمد حماسة،1983- النحو والدلالة، مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة،ط1، ص171.
ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص96.
عثمان، اعتدال،1988- إضاءة النص،دار الحداثة،بيروت،ط1، ص8.
الناعم،عبد الكريم،2009- مهرجان الأبواب، وزارة الثقافة، دمشق،ص86.
الماغوط،محمد،1971-ديوان محمد الماغوط،دار العودة،بيروت، ص192.
خضور،فايز،2003- ديوان فايز خضور؛668-669.
العلاق، علي جعفر،2011- ذاهب لاصطياد الندى،دار فضاءات الأردن،ط1، ص78.
ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص113.
قباني،نزار- الأعمال الشعرية الكاملة،ج1/ ص668.
بزيع، شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج1/ ص407-408.
ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص320.
المرجع نفسه،ص319-320.
حرب،جوزف،2008- كلكِ عندي إلا أنت،دار الريس،بيروت، لبنان، ص416-417.
أبو خالد،خالد،2008- العوديسا الفلسطينية(الأفعال الشعرية)،رام الله، فلسطين، ط1،ج3/ص7.
خضور،فايز،2003- ديوان فايز خضور،ص680-681.
فضل،صلاح،1995- أساليب الشعرية المعاصرة،دار الآداب، بيروت، ص111.
العبدو،زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر، مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث،مج،29،ع2، ص40.
أبوعفش،نزيه،2003- الأعمال الشعرية،ج2/ ص353.
شرتح، عصام،2012-ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص76.
أدونيس، علي أحمد سعيد،2008- الآثار الكاملة،ج2/ ص456-459.
دندي، محمدإسماعيل،1996- حداثتنا الشعرية مفهومهاوإشكالاتها،دمشق،دار معد،ط1، ص38.وانظر: العبدو، زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر،ص41.
الحصني،عبد القادر،1998-ماء الياقوت، دار الإنماء الحضاري حلب،ص42.
شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص355.
العلاق، علي جعفر، 2011- سيد الوحشتين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ص65-66.
الجندي،علي،1969-الحمى الترابية،ص135- 136,

المصدر : موقع ثقافات من هــــــــنــــــا

 

اترك تعليقاً