منوعات

كوكب الأرض بين المسَطِّحين والمكوِّرين (الجزء 2) / أشرف غريب


المبحث الأول: دعوى إجماع العلماء على “كروية الأرض” ومدى صحتها:

المطلب الأول: الإجماع، ماهيته وبعض مسائله:

أولا: ما هو الإجماع؟

     من معاني الإجماع في اللغة “الاتفاق”، ومنه أُخذ معناه في اصطلاح علماء الشريعة الإسلامية، فهو: “اتفاق جميع مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، في عصر من العصور، على أمر ديني”([1]).

     ومن خلال هذا التعريف نستخلص أنه لكي يقال “في المسألة إجماع” ينبغي أن يتفق “جميع” علماء العصر على قول واحد بعينه له علاقة بأمور الدين، فلو خالف واحد من العلماء وقال بخلاف قول الآخرين ولو كانوا أغلبية ساحقة فإنه لا يسمى إجماعا، بل يقال “المسألة فيها خلاف” أو”فيها نزاع”، فـ”الإجماع من الأكثر ليس بحجة مع مخالفة الأقل” على حد تعبير أبي حامد الغزالي، ويعلل ذلك بأن “العصمة إنما تثبت للأمة بكُلِّيتها، وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه، وقد قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)([2])، فلا ينفع والحالة هذه إلا التحاكم إلى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة لا إلى الأغلبية أو ما إلى ذلك، وفي هذا يقول ابن تيمية: “فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه”([3]). أما إذا ثبت الإجماع فإنه يكون ملزِما وحجةٌ شرعية، يقول ابن تيمية: “وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة”([4]).

     وقولهم (في عصر من العصور) “فائدته الاحتراز عما يرد على من ترك هذا القيد، من لزوم عدم انعقاد إجماع إلى آخر الزمان، إذ لا يتحقق اتفاق جميع المجتهدين إلا حينئذ”([5])، وفيه إشارة إلى أنه إذا انعقد الإجماع في عصر ما، ثم جاء مخالف لهذا الإجماع بعد انعقاده في ذلك العصر، لم يقبل قوله، وترد مخالفته، لأنه يكون ملزَما باتباع هذا الإجماع كما هو ملزم باتباع ما دل عليه القرآن والسنة، وليس هذا موضع الدخول في مباحث الإجماع بشكل تفصيلي استقراءً وتحليلًا ونقدًا، وإنما هي إشارات نتطلع من خلالها إلى أن يفهم القارئ ماهية الإجماع سواء كان عاميا أو غير عامي.

ثانيا: لا بد للإجماع من مستند في الكتاب والسنة:

     قال ابن حزم: “اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل. ثم اختلفنا فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص وقلنا نحن هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين في أي قول المختلفين هو الحق لا بد من هذا”([6]).

     وقال ابن تيمية: “كل ما أجمعوا عليه فلا بدَّ أن يكون فيه نصٌّ عن الرسول، فكل مسألة يُقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين: فإنها مما بيَّن الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن، وأما إذا كان يظن الإجماع، ولا يقطع به: فهنا قد لا يقطع أيضاً بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر؛ بل قد يكون ظن الإجماع خطأ، والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع، وما لا يكفر”([7]).

     لا شك أن هناك -كما قال ابن حزم- من قال بصحة الإجماع غير المستند إلى نص من كتاب ولا سنة، والذي أراه أن مجرد اختلافهم في هذه الجزئية يدل على صحة ما ذهب إليه القائلون بضرورة النص، لأن الفريقين متفقان أن الإجماع المستند إلى نص صحيحٌ، لكنهما مختلفان في الذي لم يستند إلى نص “هل هو إجماع صحيح أم لا؟” وبالتالي لا يكون المختلف فيه صحيحا بخلاف الأول، وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، ومن أحب التوسع فليرجع إلى كتب أصول الفقه، وأنا إنما سقت قول ابن حزم وابن تيمية لأنهما ممن نقلوا الإجماع على “قضية كروية الأرض” التي نحن بصدد التحقق من صحتها، فيلزم عليه أن يكون لهذا الإجماع الذي نقلاه مستند صحيح من الكتاب أو السنة، إذ هما يقولان بضرورة استناد الإجماع إلى نص، فكيف إذا وجدنا نصوصا تدل على خلاف ما دل عليه الإجماع الذي ادعاه؟ لا شك أنه يكون باطلا.

ثالثا: الإجماع قسمان، قطعي وظني:

     يقول ابن عثيمين: “الإجماع نوعان: قطعي وظني: 1- فالقطعي: ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وتحريم الزنى، وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته، ولا كونه حجة، ويكفر مخالفة إذا كان ممن لا يجهله. 2- والظني: ما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء. وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته، وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في العقيدة الواسطية: “والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة “([8]).

      وينكر ابن حزم الإجماع الظني ولا يعتبره إجماعا، ولا يُثبت إلا الإجماع القطعي المتيقن، فيقول: “إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى”. ويُقسم ابن حزم الإجماع المتيقن إلى قسمين، فيقول: “أحدهما: كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام، في أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكوجوب الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان …” وساق أمثلة مما يقال له “المعلوم من الدين بالضرورة” ثم قال: “فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام. والقسم الثاني: شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، أو تُيُقِّن أنه عرفه كل من غاب عنه عليه السلام منهم، كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها…”، وساق أمثلة أخرى، ثم قال: “فهذان قسمان للإجماع، لا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما، ولا أن يُعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما … ومن ادعى أنه يَعرِف إجماعا خارجا من هذين النوعين، فقد كذب على جميع أهل الإسلام”([9]).

     وقد قال أبو حامد الغزالي مقررا نفس ما ذهب إليه ابن حزم: “الإجماع لا يثبت بخبر الواحد، خلافا لبعض الفقهاء. والسبب فيه: أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة، وخبر الواحد لا يقطع به، فكيف يثبت به قاطع”([10])، والإجماع الذي ثبت بخبر الواحد هو الظني، فهذا من جهة إفادته العلمَ، أما العملَ، فيذكر الغزالي بعد كلامه هذا أنه “ليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد”.

فهل يا ترى، الإجماعُ المنقول على كروية الأرض إجماعٌ قطعي أم ظني؟

رابعا: خطورة ادعاء الإجماع وعُسر ضبطه وإثباته:

     يقول ابن تيمية: “والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة”. ويقول ابن عثيمين شارحا قول ابن تيمية: “يعني: أن الإجماع الذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم …”، إلى أن قال: “فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعى الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح”([11]).

     ويقول ابن تيمية كذلك مقررا قاعدة مهمة في أن ادعاء الإجماع ليس إلا عدم العلم بالمنازع: “الوجه التاسع: أن دعوى الإجماع من علم الخاصة الذي لا يمكن الجزم فيه بأقوال العلماء، إنما معناها عدم العلم بالمنازع، ليس معناها الجزم بنفي المنازع، فإن ذلك فيه قول بلا علم … –ثم ينقل قولا مهما لأبي ثور- قال: إن الذي يُذكر من الإجماع معناه أنا لا نعلم منازعا. ثم ما يُعرف من ادعى الإجماع في هذه الأمور إلا وقد وجد في بعض ما نذكره من الإجماعات نزاعا لم يطلع عليه”([12]).

     وقال ابن قيم الجوزية في فصل نفيس يُستحسن الرجوع إليه أسماه “طريقة المتأخرين في أخذ الأحكام” مبينا صعوبة وعُسر تعقب إجماع العلماء بعد أن ذكر الفرق بين طريقتهم وطريقة المتقدمين: “… الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور، فإنَّ علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه لعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم”.

     ثم يقول في كلام علمي قيم، وكل ما سبق نقله عنه علميٌّ قيم: “وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلافُ الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه، فقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشرٍ المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا. وقال في رواية المروزي: كيف يجوز للرجل أن يقول “أجمعوا”؟ إذا سمعتهم يقولون: “أجمعوا” فاتهمهم، لو قال: “إني لم أعلم مخالفا” كان. وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: “ما أعلم فيه اختلافا” فهو أحسن من قوله إجماع الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا”([13]).

    فإذا كان الأمر كما تقرر، علمنا أن ادعاء الإجماع في الأحكام خَطِرٌ، وأن إثباته وتتبع أقوال العلماء لإثباته عَسِرٌ، ولذلك كان المذهب الأسلم والأقوم في إثبات الأحكام سواء كانت معرفية عقائدية أو فقهية، هو النظر في الكتاب والسنة أولا، فما دلت عليه نصوصهما قيل به، اللهم إلا أن يكون هناك إجماع قطعي فيؤخذ حينئذ ويُقال به، لكن بعد النظر في النصوص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] موسوعة الإجماع لابن تيمية للبوصي، الناشر: مكتبة دار البيان الحديثة، ص: 9. والمستصفى للغزالي، الناشر: دار الفضيلة، ج: 1، ص: 440. وشرح الكوكب المنير للفتوحي، الناشر: وزارة الأوقاف السعودية، ج: 2، ص: 211. والشرح الكبير على الورقات للعبادي، الناشر: مؤسسة قرطبة، ج: 2، ص: 351.

[2] المستصفى، ج: 1، ص: 468.

[3] مجموعة فتاوى ابن تيمية، الناشر: دار الأوقاف السعودية، ج: 20، ص: 12.

[4] مجموعة فتاوى ابن تيمية، ج: 20، ص: 10.

[5] الشرح الكبير على الورقات، ج: 2، ص: 351.

[6] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، الناشر، ج: 4، ص: 128 – 129.

[7] مجموعة فتاوى ابن تيمية، ج: 7، ص: 39.

[8] الأصول من علم الأصول لابن عثيمين، ص: 63.

[9] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج: 4، ص: 149 – 150.

[10][10] المستصفى، ص: 504.

[11] انظر شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، الناشر: دار ابن الجوزي، ج: 2، ص: 328.

[12] الإخنائية أو الرد على الإخنائي لابن تيمية، الناشر:دار الخراز، ص: 458 – 459.

[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، الناشر:دار ابن الجوزي، ج: 3، ص: 557 – 558 – 559.

اترك تعليقاً