الفكر الحر

صراع الديكة في البرامج الحوارية العربية وحرية التعبير تتحول إلى سباب!

 

الطاهر الطويل

FEBRUARY 18, 2016

«يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»… أستحضر دائماً هذا التعبير البليغ لشاعرنا أبي الطيب المتنبي، كلّما شاهدت ما يجري في بعض البرامج الحوارية في القنوات التلفزيونية العربية، حيث يبدو عدد من الضيوف غير قادرين على تقبّل النقد والرأي المخالف، وسرعان ما يتحول كلامهم إلى قذف وسباب واتهامات متبادلة فيما بينهم، ويجد المشاهد المسكين نفسه أيضا أمام صراخ وضجيج لا يفهم منهما أي شيء. والأدهى والأمر حين يحصل ذلك مع شخصيات عمومية يُفترض فيها أن تكون قدوة في الحوار الحضاري الراقي، الخالي من التشنجات ومن صراع الديكة.
مثال ذلك ما حصل قبل أسبوع، في قناة «الحوار التونسي»، حيث كان يجلس القاضي أحمد الرحموني بجانب وزير التربية ناجي جلول في البرنامج المباشر «اليوم الثامن»، للحديث عن موضوع الإرهاب في تونس. ما إن شرع القاضي في الإفادة بوجود اتهامات بممارسة التعذيب في حق المتهمين من طرف رجال الأمن، حتى انتفض الوزير في وجهه، رافضا التشكيك في عمل المؤسسة الأمنية وتبرير الأعمال الإرهابية، ومعتبرا كلام القاضي تجسيدا لـ «قلة الحياء»؛ فردّ عليه الأخير أنه من غير المقبول أن يصدر هذا الكلام عن أحد أعضاء الحكومة، وأن المتحدث هو من يُـعدّ «قليل الحياء» (بتعبيره). فما كان من الوزير سوى أن قام وانسحب من البلاتو متأبطا ملفه، مرددا اتهامات للقاضي بتبييض الإرهاب والدفاع عن الإرهابيين. وعلق القاضي على ذلك بكونه مجرد «مزايدة سياسية».
والواقع أن اللغط صار قاسما مشتركا بين العديد من البرامج السياسية في التلفزيونات العربية، التي لا يخرج منها المشاهد بأية فائدة أو معلومة أو رأي؛ فتصبح مجرد فرجة لـ»كوميديا سوداء»، يتّضح معها إلى أي حد تضيق صدور الكثيرين ممن يحاولون إلغاء الآخرين والرغبة في قتلهم الرمزي أو ربما حتى المادي، وما يؤكد ذلك أن الأمر يتجاوز أحيانا العنف اللفظي (من سب وقذف وتخوين وازدراء) إلى محاولة الضرب بالأيدي ورمي أكواب الماء في وجه الضيف الآخر.
وحين يشاهد المرء مثل هذه اللقطات المخزية، يدرك حقيقة الخيط الناظم ما بين عدد من الحكام العرب وبعض الشخصيات العمومية التي تدور في فلكهم: إنه الاستبداد والاستفراد بالرأي ومحاولة تكميم الأفواه من خلال تهم العمالة والتخوين والإرهاب، وتصير السلطة معادلا موضوعيا للتسلط.

حين تصير الحرية فوضى!

في مقابل سعي بعض المسؤولين إلى تكريس أحادية الرأي، يلاحظ أن بعض الضيوف العاديين الذين تستضيفهم القنوات التلفزيونية العربية يلقون الكلام على عواهنه، ويجعلون من حرية التعبير مطية لتمرير مواقف وعبارات مسيئة للكرامة الإنسانية. كما أنهم يبنون على حالات مجتمعية معينة أحكام قيمة قطعية، ويسعون إلى تعميمها على الكل، من غير تمحيص وتدقيق وبحث علمي موضوعي.
قبل بضعة أسابيع، ثارت ثائرة الكثيرين في أرض الكنانة بسبب ما ورد في برنامج «ممكن» بقناة «سي بي سي» من كلام طائش، تضمن إساءة مباشرة لنساء الصعيد، حيث اتهمهن أحد ضيوف البرنامج بالخيانة الزوجية التي تمارسها 30 في المائة منهن، بحسب ادعاء المتحدث؛ وهو ما جرّ على البرنامج سخطا عارما، وصل إلى حد توقيفه لمدة 15 يوما، وفق إفادة بعض المصادر الإخبارية.
وكما قال الشاعر قديما: «جراحات السنان لها التئام… ولا يتأم ما جرح اللسان».
لكن، لماذا يضطر المعني بالأمر في هذه الحالة وما شابهها من الحالات إلى نشر توضيح واعتذار؟ لمَ لا يحسب لكلامه ألف حساب قبل أن يُلقي به أمام الناس؟ ألم يتعلم وهو صغير المقولة المعروفة: «حريتك تتوقف عند حرية الآخرين». بيد أن الأمر هنا، يتعدى مسألة الحرية ليصل إلى القذف والمساس بأعراض زوجاتٍ وأمهاتٍ وأخوات.
كما أن العديد من القائمين على البرامج التلفزيونية العربية بحاجة إلى استحضار ميثاق الأخلاقيات الصحافية، لإدراك أن العمل الإعلامي حرية ومسؤولية في الوقت نفسه. أما السعي لتحقيق الإثارة واستقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين بأية طريقة كانت، فلن يجلب على أصحابه سوى الأخطاء القاتلة التي تنطبق عليها المقولة الشهيرة: «يمكنك أن تكذب على جميع الناس بعض الوقت، ويمكنك أن تكذب على بعض الناس طوال الوقت، ولكن لا يمكنك أن تكذب على جميع الناس طوال الوقت.»

باسو… والكوميديا الجادة

على الرغم من الظهور القليل للكوميدي المغربي الشاب باسو عبر التلفزيون، فإن اللحظات التي يظهر فيها تكون مميزة، وتبين قوة موهبته الفنية وعمق ارتباطه بالمجتمع المغربي الذي يعبّر عنه من خلال فقرات ساخرة تنتقد مظاهر الخلل، سياسيا واجتماعيا وفنيا. ومن ثم، يتحول اسمه إلى أيقونة تتكرر عبر الكثير من الفيديوهات المنتشرة عبر المواقع الإلكترونية.
أخيراً، سجّل باسو تألقا جديدا خلال حضوره في برنامج «مسار» بالقناة المغربية الثانية (دوزيم)، إذ قدم فقرة ساخرة ينتقد فيها عدة موضوعات، من قبيل: انتشار الزبونية في الوسط الفني المغربي، ولجوء إحدى الممثلات إلى فيلم للعري من أجل الشهرة، بالإضافة إلى التصاق عدد من السياسيين بكراسيهم الانتخابية والإدارية.
باسو مثال للكوميديين المغاربة الشباب الذين ساهم برنامج المسابقات «كوميديا» بالقناة الأولى في إبرازهم وفسح المجال لهم، لتقديم أعمال تجسد التصاقا وثيقا بقضايا الناس ومشكلاتهم اليومية. فما أحوج القنوات التلفزيونية المغربية إلى استثمار هذه الطاقات الكوميدية في تقديم برامج ساخرة من شأنها أن تحقق المصالحة مع الجمهور الذي أصبح يتجه إلى قنوات عربية وأجنبية من أجل التزود بالمتعة والفائدة معا!

مستوطنو التلفزيون!

تحدّث الكوميدي باسو في فقرته الساخرة (المشار إليها أعلاه) عن بعض الوجوه التي صارت تتكرر باستمرار في الكثير من الأعمال التلفزيونية وفي بعض الإعلانات التجارية، لدرجة أنها أصبحت لها «دكاكينها» التي تبيع فيها مواد التنظيف والمنتجات الغذائية وخدمات الهاتف المحمول… وغيرها. كما أنه من فرط كثرة ظهور تلك الوجوه في التلفزيون أصبحنا نعتقد أنها فرد من أفراد الأسرة، يقول باسو.
الخطير في الأمر، أن البعض يردد كون بعض المعلنين هم مَن يفرضون تلك الوجوه لـ»بيع» منتجاتهم عبر التلفزيون. حسناً، لنمنح هؤلاء المعلنين قنواتنا، يتصرفون فيها كما يشاؤون، ويفرضون فيها ذوقهم وفكرهم وتوجهاتهم في نشرات الأخبار والبرامج الاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها… ما داموا يزعمون أنهم يعرفون كل ما يريده مستهلك التلفزيون!

الطاهر الطويل : كاتب صحافي من المغرب

المصدر: موقع القدس العربي من هــــــنـــــــا

 

اترك تعليقاً