مقالات نقدية

قراءة في كتاب “خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحط”

ـ  محمد البقالي        

تقديم

ينخرط هذا العمل ضمن المجهود العلمي الذي ما فتئ يبذله الباحث محمد مشبال في سبيل اقتراح تصورات وإجراءات نقدية تسعف في مقاربة النص النثري العربي القديم وإبراز خصوصياته دون الإذعان لسطوة الأنموذج الشعري والامتثال لبلاغته. من هنا نرى أن هذا العمل ينطوي على أطروحتين أساسيتين متكاملتين:

الأولى تمثل استئناف التفكير في المشروع العلمي الذي دشنه الباحث انطلاقا من أعماله الأولى، وهو المتمثل في البحث عن كيفية مقاربة النصوص النثرية العربية القديمة بالامتثال إلى طبيعة بلاغتها الخاصة. ولعل السؤال الذي مهد به الباحث دراسته؛ أي كيف نهتدي إلى ما يمكن وصفه ببلاغة نوعية مستمدة من ماهية النثر؟[1] يختزل جوهر هذا المشروع العلمي الذي رامت ملامسة إشكالاته عديدٌ من دراسات الباحث، التي اعتمدت نثر الجاحظ مدونة لاختبار هذا المشروع، بدءا من مقاله “سمة التضمين التهكمي في رسالة التربيع والتدوير”، ومرورا بـ”بلاغة النادرة”، ثم “البلاغة والسرد: جدل التخييل والحجاج في أخبار الجاحظ” وانتهاء بهذه الدراسة.

وأما الأطروحة الثانية فتستشف من عنوان البحث، أي تعرف نوع من النصوص النثرية العربية القديمة، التي قلما توجهت عناية الباحثين إلى دراستها. ولعل هذا الرهان مثّل تحديا لم يرفعه الباحث إلا باعتماد تحليل بلاغي موسع ومنفتح، جنّب الدراسة الوقوع في مآزق شابت دراسات أخرى، وتقاطعت مع عمل الباحث إما منهجا ومتنا، مثل دراسة محمد على سلمان، الموسومة بـ”كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الجاحظ”[2]، وإما منهجا فقط  كدراسة عبد العالي قادا الموسومة بـ”الحجاج في الخطاب السياسي، الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا”[3].

1ـ المقاربة البلاغية التأويلية:

يتشكل هذا البحث من ثلاثة أقسام متعلقة بإشكال علمي دقيق، وهو استخلاص البلاغة النوعية لرسائل الجاحظ. فلقد أولى الباحث جهدا بالغا في صياغة القسم النظري من الأطروحة، حيث كان ملزما ببلورة ملامح المقاربة البلاغية الحجاجية المعتمدة في الدراسة أولا، وتبريرها عبر الكشف عن مدى ملاءمتها لمتن الدراسة من ثانيا، ثم تطويعها لسلطة النصوص ثالثا.

إن هذا القسم نجح في رفع التحديات المنهجية المطروحة، وقلص المساحة القائمة بين التنظير والتطبيق، وتجنب استعراض النظريات وإجراءات المنهج، وذلك عن طريق اجتراح تصور نظري انطلاقا من استلهام النظريات البلاغية المعاصرة والإنصات لنبض النصوص.

تقوم إذن المقاربة المعتمدة على فهم موسع لبلاغة النص، التي حددها الكاتب بأنها “كل ما يسهم في خلق تأثيره سواء أكان مصدر هذا التأثير صورة أسلوبية مقننة أم تقنية حجاجية محددة، أم غير ذلك من المظاهر العديدة التي لا نجد لها بالضرورة تسمية في حقل البلاغة بمعناه الدقيق”[4]. فقد قامت هذه المقاربة على تفادي النظر إلى البلاغة بوصفها خطاطة جاهزة تمتثل لها النصوص. فإصغاء الباحث إلى نبض النصوص مكنه من اقتراح مبادئ تقوم عليها هذه القراءة البلاغية، وهي: الأخذ بعين الاعتبار الإطار النوعي الذي تنتسب إليه النصوص، ومبدأ الحوارية، واعتبار الحجج سواء أكانت تنتمي إلى اللوغوس أم إلى الإيتوس أم إلى الباتوس بنية غير معزولة عن طبيعة النصوص.

ومن سمات هذه المقاربة النزعة الشمولية في التحليل المتوجه أساسا إلى الرسائل ذات الصلة بموضوع الكتاب؛ أي تلك التي تندرج في الأدب الأخلاقي والأدب السياسي، لتداخلهما في الثقافة العربية الكلاسيكية. ففي القسم الثاني تركز التحليل على رسائل “المعاد والمعاش” و”كتمان السر وحفظ اللسان”، ورسالة “الحجاب”، و”في ذم أخلاق الكتاب”، و”التربيع والتدوير”، و”فصل ما بين العداوة والحسد”. وفي القسم الثالث توجه التحليل إلى الرسائل التي مثلت حضور الهوية الذاتية والهويات الأخرى، وهي رسالة “الأوطان والبلدان”، ورسالة “فخر السودان على البيضان”، ورسالة “مناقب الترك”، ورسالة “الرد على النصارى”، هذا فضلا عن حضور نصوص جزئية أو كاملة من باقي الرسائل في القسم الأول لتؤدي وظائف تمثيلية وتوضيحية للمبادئ والإجراءات البلاغية.

يتضح مما سلف نزوع الدراسة إلى أن تشمل جل الرسائل. وهو الأمر الذي مكّن الباحث من تصنيف الرسائل في عينات يهيمن عليها مقوم بلاغي محدد، مثل قوله:” استخدم الجاحظ في رسائله عديدا من الصيغ الحجاجية المرتبطة بالحجاج السببي، وعلى رأسها الحجة النفعية التي هيمنت على رسالة تفضيل النطق على الصمت ورسالتي في مدح النبيذ وصفة أصحابه والشارب والمشروب”[5].

غير أننا لا نقصد بالتحليل الشمولي المذكور إلحاح الباحث على النظر في جل مدونة البحث فقط، وإنما نقصد به أيضا النظر في النصوص بوصفها كلا لا أجزاء، وهو مما يؤطر الدراسة ضمن حقل تحليل الخطاب.

إن هذا الهاجس الذي كان حاضرا في ثنايا البحث مثّل تحديا قلما نجحت في تجاوزه إلا دراسات نادرة. فمثلا في الدراستين اللتين أشرت إليهما آنفا[6]، لم تحضر النصوص في التحليل إلا كمقتطفات مختصرة على سبيل التمثيل للظواهر البلاغية والحجاجية المعروضة. ولعل مما يكشف عن وعي الكاتب بهذا التحدي قوله:” فلا يجوز الاكتفاء برصد السمات الجزئية سواء أكانت استعمالات لغوية أم صورا أسلوبية أم تقنيات حجاجية، بل ينبغي تجاوز ذلك إلى النظر في طرق تشكل هذه السمات نصيا والاستراتيجيات الخطابية المعتمدة في بناء النص في كليته”[7].

2ـ الكفاية التفسيرية للمقاربة التحليلية:

وهي تلك الكفايةالقائمة على التعليل والتبرير وأيضا التأويل، والتي تعكسها مؤشرات نصية موزعة على امتداد البحث. فأولى مظاهر هذه الكفاية تتجلى في الجهد النظري الذي رام من خلاله الباحث تبرير اعتماد المقاربة البلاغية الحجاجية كاختيار منهجي لتحليل رسائل الجاحظ، إذ بين أن هذا الاختيار ليس من قبيل الترف الفكري، أو استجابة ظرفية لتقليعة جديدة في حقل المناهج، بقدر ما هو اختيار يجد مسوغاته العلمية في ما تزخر به نصوص الرسائل ذاتها من مقومات خِطابية، اجتهد الباحث في تجليتها. ونجملها في ما يأتي: انشغال رسائل الجاحظ بالمتلقي، وارتباطها بمواقف تواصلية محددة، وقيامها في فضاء حواري، وتقاطعها مع أنواع خطابية من قبيل المناظرة والمفاخرة والوصية وغيرها. إن هذه المقومات حتمت اعتماد الباحث المقاربة البلاغية المقيدة بجملة من المبادئ مثل الإطار النوعي والحوارية والحجج سواء المرتبطة باللوغوس أو بالإيتوس أو بالباتوس، ووظيفية الوجوه الأسلوبية؛ أي اعتماد منظور بلاغي موسع ومنفتح.

وتتجلى أيضا في دعوة الكاتب إلى ضرورة استعاضة البلاغة النوعية بالبلاغة العامة، وذلك بإبراز قصور القراءة البلاغية العامة التي اختزلت طموحها في رصد فنون العبارة، في المقابل تستعيد القراءة البلاغية النوعية رحابة البلاغة التي كانت عليها في الأصل؛ أي تشمل اللوغوس والإيتوس والباتوس.

كما تتمثل هذه الكفاية في حرص المؤلف على تفسير الإجراءات البلاغية المشغّلة في المقاربة رغبة في إحراز التواصل مع القارئ. فاستحضار القارئ وتوخي التأثير فيه مَلَكَا وعي الباحث وهو في خضم انشغاله ببناء أطرحته. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، قوله في سياق إبراز حجاجية الوجوه الأسلوبية:” وفي هذه الحال تتسع الوجوه الأسلوبية، التي يعنى بها المحلل البلاغي، لتستوعب كل الأشكال اللغوية المحوَّلة عن جهتها المعيارية لأداء وظائف بلاغية. فالقيمة التي يحظى بها الوجه الأسلوبي ليست قيمة ذاتية، بل قيمة مرتبطة بالوظيفة التي يضطلع بها في مقام محدد”[8].

إن مرد وضوح أطروحة البحث وسلاستها هو سريان هذه الكفاية في جل مباحث هذه الدراسة، مما رفع مختلف أشكال الغموض عنها، وغدى طاقتها التواصلية مع القارئ.

ختاما لا ندعي من خلال هذه القراءة إحاطتنا الشاملة بكل المزايا العلمية التي تتمتع بها هذه الدراسة، ولا كان في وعينا التعبير عن كل الجهد المبذول في بنائها، وإنما حسبنا أننا سجلنا انطباعات نابعة من قراءة متمعنة لهذا العمل، مع موازنته ببعض الدراسات التي أمكننا الوقوف عليها، وتحمل همّا مشتركا. فتبين لنا بالملموس أن الباحث محمد مشبال كان على وعي بمظاهر الاختلال التي أشرنا إلى بعضها، والتي شابت كثيرا من الدراسات التي تتقاطع مع إشكال تصوره، فصاغ دراسته في ضوء هذا الوعي.                    

[1] ـ خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ مقاربة بلاغية حجاجية، للدكتور محمد مشبال، دار الكنوز، عمان، الطبعة الأولى، 2015م، ص: 5.

[2] ـ صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2015م.

[3] ـ صدرت عن دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى، الأردن، 2015م.

[4] ـ المرجع نفسه، ص: 13.

[5] ـ المرجع نفسه، ص: 78.

[6] ـ “كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج رسائله نموذجا”، و”الحجاج في الخطاب السياسي، الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا دراسة تحليلية”.

[7] ـ المرجع نفسه، ص: 13.

[8] ـ المرجع نفسه، ص: 118.

المصدر: موقع الهدف الشمالي من هـــــنــــا

اترك تعليقاً