منوعات

عن رحيل كبار الأدباء: ت. س. اليوت … في ذاكرة الخمسين / عبد الواحد لؤلؤة

في 4/1/1965 توفي الشاعر الأمريكي المولد، البريطاني التجنس ت.س.اليوت. وبموته رحل عن هذه الأرض آخر العمالقة من الشعراء الناطقين بالانكليزية. وخلال نصف قرن بين 1915 ـ 1965، نشر اليوت عشرين كتابا، بين مجموعة شعرية وكتاب نقد، ومثل هذا العدد من كتب لآخرين، حررها أو قدم لها. ومنذ بداية الخمسينات بدأ المتأدبون العرب يسمعون بهذا الشاعر الناقد، ولو ان بعضهم كتب عنه أو ترجم له عنه قبل ذلك التاريخ بقليل.

ترى ما الذي يمثله هذا الشاعر في عالم الشعر الناطق باللغة الانكليزية؟ وما الذي أفاد الشاعر العربي، والمتأدب العربي عموما، من اليوت، خلال خمسة عقود مضت؟
نشر اليوت أول قصائده بعنوان «اغنية حب ج. الفريد بروفروك» في عدد نيسان ـ ايلول 1915 من مجلة (شعر) الأمريكية التي كانت تصدرها الشاعرة الأمريكية هارييت مونرو. كانت القصيدة نموذجا لما عرف آناء ذلك وبعده باسم «الاسلوب الصوري» وليس «التصويري» كما شاع في بعض الترجمات المغلوطة. هنا يقدم الشاعر «صورة» يعقبها بصورة أخرى تنقل للقارئ «فكرة» القصيدة. كان الذي أقام هذا الاسلوب في العقد الأول من القرن العشرين الشاعر الأمريكي المولد، الأوروبي التسكع عزرا باوند (وهو ليس يهودياً، بالمناسبة). ويعود الاسلوب في جذوره الأولى إلى الرمزية الفرنسية التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر، كما نرى في شعر لافورك وكوربيير وغيرهما. يقوم الاسلوب الصوري على بلورة صورة أو سلسلة من الصور تؤدي إلى التعبير عن فكرة. وقد سبق هذه القصيدة عام 1909 أربع قصائد قصار بعنوان «مقدمات» هي أشبه بمقدمات موسيقية للحن الرئيس. ففي «المقدمة» الأولى صورة «الخواء» في العالم المعاصر كما يراه اليوت في العقد الأول من القرن العشرين. وفي الثانية صورة «الوحشة». وفي الثالثة صورة «البرم». وفي الرابعة صورة «التشوف». تجتمع هذه الصور الأربع في قصيدة «بروفروك» التي تصور حياة رجل فاته قطار الشباب وراح يبحث عن بديل الحب في ارتواء جسدي يخفق في بلوغه. الحياة في «بروفروك» أشبه بحياة «مريض مخدر على منضدة» مستشفى، لا هو بالحي ولا بالميت، بل منزلة بين المنزلتين تعيسة. تلك هي الحياة كما رآها اليوت في بدايات العقد الثاني من القرن العشرين: حياة عقيم يكاد المرء فيها ان يبلغ التعبير عنها ولكنه يخفق دون ذلك فيصيح: «ليس هذا ما عنيت على الاطلاق» و»بروفروك» إنسان العصر «بطل» يفاخر بانه كان يقيس حياته بملاعق القهوة التي يستهلكها لا بالمنجزات الفعلية ولا بجلائل الأعمال. وهو يعيش حياة مجتمع واه يفتقر إلى عناصر الربط. وهذا موضوع سيتكرر في القصائد اللاحقة، وبالذات في قصيدة اليوت الكبرى «الأرض اليباب».
كانت السمة الغالبة في بواكير شعر اليوت، بل في أواخر ما كتب كذلك، هي تلك المسحة من الكآبة وضعف الأمل في امكان الأفضل. وقد يكون لذلك سبب «ثقافي» بالمعنى الواسع للكلمة. وهنا يحضر المرء مثال رجارد برتن صاحب «تشريح الكآبة» ذلك الكتاب العجيب الذي يطفح بخلاصات من ضروب المعرفة: قديمها ومعاصرها، قدر ما كان في طوق متأدب في القرن السابع عشر في أنكلترا ان يحيط به. كان السلف الثقافي للشاعر الناقد اليوت شاعراً انكليزيا كئيبا آخر، توفي في عام ولادة اليوت في 1880، هو الشاعر الناقد ماثيو آرنولد. كان آرنولد قد آمن، وهو يجوس خلال مكتبات أكسفورد، ان على الشاعر الناقد ان يحيط «بأفضل ما قيل وكتب في لغات عديدة». وكان ذلك ترجيع صدى ما فعله برتن، وكان آرنولد يتقن لغات عديدة هي وسيلته للاحاطة بأفضل «ما قيل وكتب». وكان اليوت كذلك يتقن لغات أوروبية عديدة يتوسل بها ليحيط بذلك الأفضل في ثقافات الأمم الغابرة. ثم جاء يقول «ليس من شاعر ولا فنان، في أي مجال، يستطيع بمفرده ايصال معناه كاملا، فمغزاه وتقديره هو تقدير علاقته مع الموتى من الشعراء والفنانين». من هنا نفهم لماذا كان آرنولد يعرض عن شعر الرومانسيين، الذين، رغم حساسيتهم المفرطة، وصدق تعبيرهم «لم يكونوا يملكون كفاية من معرفة» كما يرى اليوت. فكلا الشاعرين ـ الناقدين يرى ان سعة المهاد الثقافية أساس الشعر الذي يستحق الاسم، والذي يمكن ان يصدر عن شاعر تجاوز الخامسة والعشرين من العمر.
ازاء هذا الموقف من الثقافة ومفهوم الشعر، نشر اليوت أكبر وأهم قصائد القرن العشرين في اللغة الانكليزية: «الأرض اليباب». هنا يجمع اليوت ثقافات عصره والسابقين، بلغات عديدة، ويملأ القصيدة باشارات إلى 35 كاتبا وكتابا، بسبع لغات غير الانكليزية، من دون شرح ولا تفسير واشارات قد تروي الغليل. هنا ترسخت صفة الغموض والتعقيد في شعر اليوت. هنا خلاصة مركزة للصور التي سبق ان رأيناها في بواكير شعره ولا بد لمن يتصدى لقراءة القصيدة ان يكون مستعدا لاطالة التأمل في الصور والعلاقات التي تبدو غير مألوفة حتى بعد قراءات عديدة. ليس في «الأرض اليباب» من «شكل» شعري أو «نمط» مألوف من حيث عدد التفعيلات أو الأبيات أو نظام القوافي مما تعود عليه قارئ الشعر. هنا مثال «الشعر الحر» الذي شرّعه الأمريكي (والت وتمن) عام 1855 يوم أصدر مجموعة «أوراق العشب» وأثار ضجة في الأوساط الأدبية بسبب غياب الوزن والقافية بالمعنى المألوف. هنا يستعيض الشاعر عن ذلك كله بما يدعوه استاذي الناقد الكبير آي.آي. رجاردز باسم «موسيقى الأفكار» وهي التي تعوض عن غياب الوزن التقليدي والقافية المعتادة. هنا تجد «الفكرة» هي الأساس في القصيدة، تتكرر أو تتواتر بشكل أو بآخر لتقدم صورة متكاملة لما يريده الشاعر. كذلك يكون طول الشطر مرتبطا بالعبارة التي تصور الفكرة، وليس بعدد تفعيلات مفروض على الشطر، أو نوع قواف يرصفها الشاعر طلبا لموسيقى لفظية غنائية الأثر.
بهذا «الاسلوب» الجديد يطلع اليوت على قارئ الشعر الانكليزي في أول عقدين من القرن العشرين، فيحدث صدمة لمن تعود على ميوعة العواطف في شعر جماعة «مرض العصر» من بودلير إلى اوسكار وايلد والتابعين، ويحدث صدمة كذلك لمن تعود رهافة الحساسية الرومانسية التي تدغدغ العاطفة ولا تقلق نعاس الفكر. في شعر اليوت على القارئ ان يحيط علما بأهم شاعر اوروبي في بواكير عصر الانبعاث، وهو دانته وما يمثله من ثقافة قروسطية مسيحية. وعليه كذلك ان يلم بالشعر الانكليزي الماوراطبيعي، الذي يسم القرن السابع عشر، إضافة إلى معرفة بالمسرح الانكليزي في ذلك العصر العجيب الذي حمله إلى العالم شكسبير، كبيرهم الذي علمهم السحر.
وعلى القارئ المعاصر كذلك، ان هو شاء ان يسبر غور اليوت، ان يكون «مطلعا على الأدب الفرنسي برمته» كما قال برتراند رسل عن اليوت، يوم ذهب للتدريس في هارفرد وقال ان اليوت واحد من أفضل تلامذته.
دعائم التراث هذه ضرورية في نظر اليوت لكل شاعر يستحق الاسم. ومن أجل ذلك كان شعر اليوت موضع اتهام انه «شعر الخاصة» أو «شعر الشعراء» وليس شعر العامة ومتوسط القراء. وكان الاتهام وما يزال ان هذا الشعر يتصف بافراط في العقلانية وافراط في الغموض وليس من السهل رد هاتين التهمتين أو احداهما. وقد يذهب اليوت مذاهب محيرة، إذ يقول لنا انه «شخصيا يرغب بجمهور لا يحسن القراءة ولا الكتابة». فذلك في نظره أفضل عند «تلقي» شعره. وهو يقول كذلك في معرض حديثه عن دانته ان الشعر العظيم يستطيع «التوصيل» من دون ان يبلغ «الفهم». وانه ما زال، شخصيا، لا «يفهم» أعظم نماذج الشعر التي شغفته زمنا، نماذج قد «اوصلت» معناها إلى ذهنه لكنه بقي شعرا خارج حدود الفهم.
من أجل ذلك كله كانت قصيدة «الأرض اليباب» يوم نشرت عام 1922 قصيدة تتحدى التوصيل والفهم معا، لدى الأعم الأغلب من القراء. وهي إلى جانب ذلك قصيدة مغرقة في «الكآبة» والقلق على حاضر الإنسان ومستقبله. قيل ان الدافع في تصوير ذلك كله ما جرى من تصدع الأنظمة في شرق آوروبا، والامبراطورية المجرية ـ النمساوية، ونهاية نظام حياة كان قائما زمنا «ينعم بهدوء واستقرار واستمرار». فلما تغير ذلك بسبب الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من ثورة وتغير، صارت الأرض «يبابا» وانحبس عنها مطر الايناع والنمو. وتتوالى صور اليباب والجفاف في القصيدة، ويتوالى التشوف إلى قطرات مطر أو رعد ينبئ بهطول المطر. والماء هنا رمز «الايمان» الضائع في العالم المعاصر كما يراه اليوت. وغياب الايمان هو سبب اليباب، ومع عودته تعود الخضرة والايناع.
كان الذي جاء به اليوت بعد «الأرض اليباب» شعرا قوامه التصوف المسيحي الخالص ويقين بان العودة إلى الجذور هي وسيلة الخلاص. وأعقب ذلك أيضا مسرحيات شعرية فيها من فلسفة الايمان أكثر مما فيها من شعر أو مسرح. فهي أعمال تتطلب كدا واجهادا في الذهن، إضافة إلى وعي بالحضارات والثقافات يجعل العمل الأدبي موضوعا للدراسة والنظر دونه متعة الأدب المسرحي.
كم من شعر اليوت ونقده استهوى الشاعر العربي المعاصر، كم من النقد استهوى أصحاب النقد عندنا؟
احسب ان الترجمات من شعر اليوت ونقده كانت متواصلة ـ على استحياء ـ خلال العقود الخمسة الماضية في بلادنا العربية. لقد وقف شعراء الخمسينات في العربية وقفة مشدوه إزاء ما لمسوا لدى اليوت من عمق الثقافة وسعتها ووضوح الموقف لديه من الدين بخاصة. فراح بعض شعرائنا يستغل فكرة «المعادل الموضوعي» (والتي افضّل عليها تسمية «الترابط الموضوعي») ويستخدمها في تقديم سلسلة من الصور ينتهي بها إلى «تقرير» فكرة والايحاء بها كما كان يفعل اليوت وبخاصة في قصائده الأولى مثل «مقدمات» و»بروفروك» و»جيرونشن». نجد ذلك عند بدر السياب من العراق وصلاح عبد الصبور من مصر وعند غيرهما بدرجات أقل. كما نجد استغلال الاسطورة والرمز عند شعراء الخمسينات والستينات في بلادنا العربية، بدرجات متفاوتة، يتخذ من شعر اليوت مثالا وقدوة وبدرجات متفاوتة من التوفيق.
ولم يكن شعر اليوت مؤثرا في الشعر العربي المعاصر وحسب. لقد ترك الشاعر أثرا، سلبا أو إيجابا، لدى عدد من شعراء الانكليزية كذلك. كانت ردة الفعل ملموسة لدى عدد من الشعراء الانكليز والأمريكان، الذين وجدوا في موقف اليوت من التراث تعاطفا مع «الرجعية» وعداء «القوى التقدم». وفي عام 1928 قال اليوت إنه «ملكي في السياسة، كلاسي في الثقافة، انكلو ـ كاثوليكي في الدين». وكان يقول ذلك عن قناعة لا عن إدعاء. ولكننا نجد كثيرا ممن «يتعاطى» النقد في بلادنا العربية قد أمسك بتلابيب هذه الجملة وراح يهاجم اليوت وشعره بناء على موقفه من ذلك الثالوث الفكري. فاساء بذلك إلى شعر الشاعر وإلى ما يمكن ان يفيد منه ناشئة المثقفين والشعراء العرب. والذي أراه أن الفهم الصحيح، القائم على دراسة في لغة النص، أو ترجمة جادة مسؤولة لأعمال ذلك الشاعر الناقد الكبير قد تفتح أمام المتأدبين العرب آفاقاً ليس بهم عنها غنى.

عن رحيل كبار الأدباء: ت. س. اليوت … في ذاكرة الخمسين.

المصدر : موقع القدس العربي من هنا

اترك تعليقاً